تنهض أطروحة مي مجيب عبد المنعم مسعد «الأقباط ومطالبهم في مصر بين التضمين والاستبعاد» (مركز دراسات الوحدة العربية ــــ 2012) على قسمين أساسيين: الأول يقدم مادة نظرية لمفاهيم التضمين والاستبعاد وتطبيقاتها على الأقباط، والثاني ميداني يتطرق إلى الخلاصات التي توصلت اليها الكاتبة بعد استطلاع 182 مُستجوباً قبطياً؛ إذ استخدمت استمارات سألت فيها عن كيفية نظر الأقباط إلى مطالبهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية. سعت الباحثة المصرية إلى الإجابة عن أسئلة محورية: ما هي العلاقة بين سياسات التضمين والتهميش وطبيعة النظام السياسي المصري؟ وما هي العوامل الوسيطة التي تؤثر في نوعية هذه السياسات؟ وقبل أن تدخل في صلب أطروحتها، تعرض للعلائق بين الدولة والمجتمع، والدين والدولة. وتقدم تعريفاً لمفهوم الاستبعاد وروابطه بالمصطلحات الأخرى ذات الصلة (الأقلية والتضمين والمواطنة) وتطوره ومكوّناته وسياقاته.
تقارب مسعد في القسم الأول مفاهيم الاستبعاد والتضمين وعلاقتها بالدولة والمجتمع والدين عند الغربيين. تستند إلى توماس هوبز، وجان لوك، ودو توكفيل، وآرثر بنتلي، وكارل ماركس وغرامشي. ثم تنتقل إلى العلاقة بين المجتمع والدولة والدين في التجربة العربية الإسلامية، فتعرض لخلاصات محمد سليم العوا وبرهان غليون ومحمد عمارة وعبد الله العروي وحسن حنفي وراشد الغنوشي...
تلاحق البدايات النظرية لبروز مصطلح الاستبعاد كمفهوم غربي أساساً. تؤكد صعوبة التعريف به بسبب تعدد اتجاهاته وأبعاده السياسية والمجتمعية والاقتصادية والثقافية والدينية، إلى أن تنتقل إلى مستوى آخر من التحليل لجهة الرابط بين الاستبعاد وثلاثية التضمين والمواطنة والأقلية. تناقش خصوصية عوامل التضمين والاستبعاد في مصر في ضوء «التمييز ضد بعض الأفراد أو الجماعات في المجالات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية». وقد أضافت عاملاً آخر، هو الأكثر تأثيراً في الحالة المصرية، وتعني به الاختلاف الديني.
وبغية تفكيك ثنائيات الدين والدولة والمجتمع في مصر، تدرس الباحثة العوامل الداخلية والخارجية التي أثارت القضية الطائفية، فتبرز أسبابها ونتائجها وارتباطها البنيوي بالمسببات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتخلص إلى أنّ السياسات الاقتصادية والاجتماعية (التهميشية) والجمود السياسي ولّدت الولاءات الدينية، ليس لدى الأقباط فحسب، بل لدى المسلمين أيضاً «فصارت المؤسسة الدينية هي الوطن». في ما يتعلق بالعامل الديني، تطبّق مسعد ما تقدمت به في المدخل التمهيدي على الحالة المصرية، وتكشف عن العلاقة بين الدين والدولة، وتستنتج بناءً على بعض الخلاصات «أن فشل الدولة في أداء دورها السياسي والاقتصادي ساهم في تعميق الفجوة بين المجتمع والدولة»، ما أدى إلى تصاعد دور الدين كقوة فاعلة لدى المسلمين والأقباط، فاتخذت الجماعات الدينية من الدين «ملاذاً تضامنياً يحميها من الدولة».
قصدت الباحثة بالأقباط «المسيحيين الأرثوذكس أبناء الكنيسة القبطية الأرثوذكسية» التي ينتمي إليها أكثر من 95 في المئة من مسيحيي مصر، وهي لا تصنفهم كجماعة دينية في خانة الأقلية العنصرية، وإنما في خانة «القلة العددية» التي تعاني الاستبعاد سياسياً واجتماعياً، علماً بأن للأقباط تأثيراً اقتصادياً فاعلاً. وهذه النقطة المهمة تشير إليها مسعد في أكثر من موضع.
بعد عرض مفهومي الأقباط والأقلية، توضح الباحثة نوعية العلاقة بين الدولة والكنيسة في الإطار الأوسع للعلاقة بين الدين والدولة، مشيرة إلى أنّ النظام هو الذي دفع المؤسسة الكنسية إلى تكون الناطقة باسم الأقباط، فتقسم مسار هذا الدفع إلى خمس مراحل: مرحلة صوغ بنود وشروط التفاهم التاريخي بين الكنيسة والدولة (1856 ــ 1934)؛ مرحلة دمج وتوظيف المؤسسة الكنسية (1959 ــ 1970)؛ مرحلة الضغوط المتبادلة بين الكنيسة والدولة (1971 ــ 1981)؛ مرحلة التهدئة ومحاولة استعادة التفاهم التاريخي (1982 ــ 1985)؛ مرحلة تثبيت شروط التفاهم التاريخي وهي الفترة المتعلقة بالدراسة والممتدة بين عامي 1991 و 2008.
تستفيض الباحثة في شرح العلاقات المجتمعية بين المسلمين والمسيحيين، وتفند مولدات التوتر الديني بين الطرفين، وتنقد توجّهات النظام ومعالجته الهشة وكيفية تعامله مع هذا التوتر الذي لم يكن دينياً في الأساس رغم تجذر الدين في الوعي الجمعي المصري. وطبعاً، لم تصطبغ العلاقات الإسلامية _ المسيحية بالطابع الإقصائي والتنابذي دوماً، بل راوحت بين الصعود والهبوط، تبعاً للعوامل الداخلية والخارجية وكيفية تعامل الدولة مع أي احتقان ديني. ومن أجل دراسة هذه العلاقات، تستشهد الباحثة بوجهات نظر مختلفة لبعض رجال الدين الأقباط، وتعرج على رفيق حبيب، وطارق البشري وأسامة الغزالي حرب. وفي ضوء الاستنتاجات التي تقدم بها هؤلاء وغيرهم، تخلص إلى تحديد نوعين من التوتر: الصلب والناعم، الأول حيث استخدم العنف المادي، والثاني حيث العمل على بناء رؤى وإسقاطات إقصائية حول الذات والآخر. القسم الثاني من الأطروحة هو الأهم لسببين: إجراء الباحثة دراسة ميدانية عبر استطلاع 182 شخصاً من الأقباط (العينة المختارة)، والنتائج المفاجئة التي خرجت بها. تصنف مسعد استمارة البحث ضمن ثلاثة إدراكات: إدراك الاستبعاد الاقتصادي، إدراك الاستبعاد السياسي، إدراك الاستبعاد الاجتماعي، وتضع في خانة الاحتمالات إمكان التهميش لأسباب الانتماء الديني، وتأخذ في الاعتبار مطالب الأقباط، فتستطلع المُستَجوبين حول مسائل متعددة مثل تعليم التاريخ القبطي في المناهج الدراسية، وإلغاء المادة الثانية من الدستور، وإعادة الأوقاف القبطية، والإسراع في إصدار القانون الموحّد لدور العبادة وغيرها من القضايا الشائكة الأخرى. فماذا تقول النتائج؟ اقتصادياً، كشفت الدراسة الميدانية عن معطيات قيّمة أهمها أنّ المواطن القبطي لا يجد نفسه مستبعداً عن العمل في القطاع الحكومي مثلاً بسبب انتمائه الديني. وقد شكلت نسبة الحاجة إلى الواسطة نحو 11 في المئة، فيما شكلت الإجابات التي رأت أنّ الديانة سبب الاستبعاد 1.1 في المئة. وبالنسبة إلى أسباب هجرة الأقباط، احتلت صعوبة ظروف المعيشة المرتبة الأولى، فيما احتلت المعاناة من التمييز الديني المرتبة الأخيرة.
أما الاستبعاد السياسي، وبعد قياس هذا البعد اعتماداً على حق الانتخاب، والحق في الترشح، وحرية التعبير عن الرأي، أظهرت الإجابات أن من لا يمارسون حق الانتخاب، وهم كثر، يفعلون ذلك بسبب عدم الاهتمام بالسياسة. كذلك إنّ الغالبية العظمى التي لم يسبق لها التعبير عن الرأي في قضية سياسية تعود إلى عدم الشعور بقيمة رأيها، فيما جاء الانتماء الديني في ذيل القائمة بنسبة منخفضة.
سجّلت الباحثة مجموعة من النتائج الميدانية المهمة، ولا شك في أنّ الأطروحة المدججة بالأرقام والجداول ــ ما أكسبها مواصفات علمية ــ تطرقت إلى أشد المسائل أهمية، سواء في كشف العلاقة بين المجتمع والدولة أو بين الدولة والمؤسسة الكنسية، وجاءت لتؤكد أن المعضلة القبطية، ليست دينية، بل مجتمعية وسياسية واقتصادية.
المستفاد أنّ ثنائية الاستبعاد والتضمين في الحالة القبطية، لا تنحو باتجاه الانتماء الديني، بل إن الإشكاليات والتساؤلات التاريخية والوقائع والحيثيات، تبرهن كلها على أزمة الدولة نفسها مع جميع مكوّنات المجتمع المصري. وبالتالي، فبناء الدولة الحديثة القادرة على ضمان حقوق الجميع، وتجسير الفجوات الاقتصادية، وتحقيق التداول السلمي للسلطة، وتكريس ثقافة المواطنة، تؤدي بالضرورة إلى إلغاء أي تمييز مهما كان نوعه، وتسهم في تقليص ازدواجية الأكثري والأقلوي.