القاهرة | الغضب الذي فجّره طمس لوحات الغرافيتي في «شارع محمد محمود»، لا يرجع فقط إلى ذكرى حرب الشوارع التي اندلعت هناك ضد قوات الأمن قبل أقل من عام، وقُتل فيها 46 متظاهراً، ولا يرجع فقط إلى الارتباط الوثيق بين فن الغرافيتي وثورة يناير. جزء رئيسي من الغضب يعود إلى أنّ جدران «شارع محمد محمود» كانت تحتضن متحفاً كاملاً لا يمثل الثورة ضد مبارك فحسب، بل يحكي تاريخ مرحلتها الثانية ضد «العسكر». لوحات بهية الألوان لا توحي بذلك «الزوال» الذي يميز عادة فن الغرافيتي. لوحات متجاورة تمتد من أول سور الجامعة الأميركية إلى آخره تقول «إنسي اللي فات...
وخليك مع الانتخابات»، كأنما تؤرخ لبداية المواجهات مع جنود طنطاوي إبان المرحلة الأولى لانتخابات مجلس الشعب في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي التي رفضها ثوار «محمد محمود» (لا انتخابات تحت حكم العسكر) فكتبوا عبارتهم الساخرة على طول السور، كأنما يحذرون الناخب «سوف تندم».
عند ناصية الشارع، عند زاوية التقائه بميدان التحرير، لوحة لثلاثة وجوه كبيرة تبدو كأنما كلّ منها ظل للآخر. الوجه الأول ينقسم إلى اثنين: نصف وجه مبارك ونصف وجه طنطاوي، خلفهما يطلّ وجه عمرو موسى، ثم وجه أحمد شفيق، وفوق الوجه عبارة «اللي كلّف ما ماتش» (في إشارة إلى تكليف مبارك المجلس العسكري لإدارة شؤون البلاد)، تلي اللوحة واحدة أخرى تحتل بقية الزاوية لرجال في بدلات أنيقة وبلا وجوه، تمتد من أجسادهم حبال طويلة تحركهم كعرائس الماريونيت، يمسك بها رجل عسكري في هيئة عملاقة، ثم تنتهي زاوية الشارع وتبدأ لوحات الشهداء: شهداء الألتراس، وشهداء «مواجهات محمد محمود ومجلس الوزراء»، الطفل أنس قتيل أحداث بورسعيد، مينا دانيال (قتيل أحداث ماسبيرو)... وجوه تطل بابتسامتها وقد جاورت بعضها رسوم لأمهات باكيات في السواد. حتى قبل الغرافيتي، تتأصل الرسم على الحوائط في تراث المصريين. يعود الأصل بالطبع إلى جداريات العهد الفرعوني القائمة منذ آلاف السنين، ربما كان لهذا الاتصال القديم الجديد أكبر الأثر في أنّ لوحات «محمد محمود» فرعونية الملامح. لوحة «النائحات» لعلاء عوض (ابن محافظة الأقصر وذاك ملمح فرعوني آخر) تقدم سيدات بالثياب المصرية القديمة، يقفن متجاورات على النمط الفرعوني المميز المفتقر إلى البعد الثالث، يكشفن صدورهن ويرفعن أكفهن نائحات في جنازة تتمثل في تابوت يعتليه «حورس». بدت اللوحة استكمالاً لجنائزية لوحات الشهداء الحزينة، لا يطل بينها سوى صورة حيّ وحيد هو سامبو الذي كان محكوماً عسكرياً بخمس سنين اثر أحداث «مسرح البالون»، خُفف حكمه لاحقاً وأفرج عنه. «عاد إلى الأسفلت» كما تقول العبارة الشعبية المصرية، وكذلك سجنت رسومات الغرافيتي خلف الطلاء الأبيض لمحافظة القاهرة، لكنها ستعود سريعاً إلى الاسفلت والجدران.