تونس | منذ منتصف التسعينيات، لم يُنجز محمود بن محمود شريطاً روائياً بعد «قوايل رمان» (1999) بسبب إجهاض مشروعه السينمائي عن الهجرة السرية المعروفة بـ«الحرقة». لكن أخيراً، قدّم المخرج التونسي المقيم في بلجيكا شريطه الجديد «الأستاذ» (١٢٠ دقيقة). فيلم روائي بنكهة وثائقية يتصفح الظروف السياسية والنقابية التي عاشتها تونس أواسط السبعينيات التي شهدت فكّ الارتباط بين «الاتحاد العام التونسي للشغل» والحزب الحاكم آنذاك (الحزب الاشتراكي الدستوري).
وقد كان الإضراب العام الذي نفذه الاتحاد يوم ٢٦ كانون الثاني (يناير) ١٩٧٨ المعروف بـ«الخميس الأسود» تجسيداً للمواجهة التي اتخذت شكلاً دموياً بين النقابيين والسلطة. وإذا كان الشريط قد تعرّض لأزمة «الخميس الأسود» كما تعرف في التاريخ التونسي، فقد تركّز الاهتمام الأكبر على تفاصيل تأسيس «الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان» سنة ١٩٧٧ التي شارك في إطلاقها دستوريون من أنصار الحزب الحاكم مع مجموعة من الناشطين اليساريين والليبراليين والديموقراطيين.
في تناوله للأزمة السياسية والنقابية التي أحاطت بتأسيس الرابطة، اختار محمود بن محمود قصة حب ممنوعة بين أستاذ جامعي وطالبته لينسج من خلالهما تفاصيل الشتاء الأسود. خليل الخلصاوي يدرس القانون الدستوري في كلية الحقوق في تونس التي كانت قلب الاحتجاجات الطلابية ضد نظامي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي. وقد شهدت المواجهات الدموية في شباط (فبراير) ١٩٧٢ المعروفة بـ«أحداث فيفري» بين النظام من جهة والطلبة من جهة أخرى بعد انقلاب السلطة على الاتحاد العام لطلبة تونس في مؤتمر قربة (شمال تونس) سنة ١٩٧١.
خليل الخلصاوي من أنصار الحزب الحاكم المتحمسين يكلّفه الحزب أن يكون من مؤسسي «الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان» التي تريدها السلطة واجهةً للغرب كي تؤكد إيمانها بالديموقراطية! يتحمس خليل لهذه المهمة من قيادة الحزب، لكنّه يتخلى عن قناعاته الحزبية وانتصاره المطلق لـ«ديموقراطية» الحزب في أول امتحان يمرّ به.
يقبض الأمن على الطالبة هند العسكري التي تجمعه بها علاقة عشق مجنونة وممنوعة، وهو الاب لابنين والرجل الملتزم شروط الحياة الزوجية قبل أن يجرفه نهر الحب. تتهم هند العسكري بالتعامل مع جهات أجنبية على خلفية مرافقتها لصحافيين إيطاليين يزوران البلاد لكتابة تحقيق صحافي عن معاناة عمال المناجم المعتصمين ويحكم عليها بالسجن أربع سنوات.
هذا الحكم القاسي بحق عشيقته يدفع خليل الخلصاوي إلى مراجعة انتمائه إلى حزب توتاليتاري يلقي بأنصار الحرية في غياهب السجون. ورغم محاولات السلطة وقيادة الحزب إقناعه بالتخلي عن طالبته والتهديد بفضح علاقته بها لزوجته، يتمسك خليل الخلصاوي بقضية حبيبته. هكذا، يُبعد من العاصمة إلى ريف منسي، وهي عقوبة موروثة عن الاستعمار الفرنسي، كانت السلطة تنفذها بحقّ معارضيها (الإبعاد الإداري)!
في ريف معزول، يتابع خليل الخلصاوي أحداث البلاد التي تحترق في ذلك الشتاء الأسود وحيداً إلا من الكتب والذكريات. لكن زوجته التي تخلت عنه حال علمها بمغامراته التي كشفتها لها قيادة الحزب، تخترق الحصار الذي ضربته حوله السلطة وتعود إليه في مشهد عاطفي مؤثر.
محمود بن محمود الذي اشتهر بأعماله الوثائقية عن الأقليات الدينية والعرقية في تونس وعن بايات تونس والموسيقى الصوفية، لم يتخلّ في شريطه الجديد عن النزعة الوثائقية ولا عن شعريته العالية في بناء الشخصيات ولا في المشاهد التي تطغى عليها الظلال.
في العمق، يتناول الشريط الحصار الذي عاشته «الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان» في السنوات العشر الأخيرة لحكم بن علي عندما منعت من عقد مؤتمرها وحوصرت مقارّها واضطر عدد من مناضليها إلى مغادرة البلاد. لكن قسوة الرقابة لم تكن ستسمح بتصوير الشريط ولا بتمويله، فاعتمد بن محمود التمويه واختار حقبة السبعينيات ليمرر رسالته.
الشريط جسّد دوره الرئيسي أحمد الحفيان الممثل التونسي المقيم في روما والمعروف اليوم في السينما الإيطالية مع الممثلة الشابة لبنى مليكة التي عرفها الجمهور التونسي والعربي في أعمال الفاضل الجعايبي كـ«جنون» و«خمسون» و«يحيا يعيش». هذا الفيلم هو آخر شريط يصوّر في العهد السابق؛ إذ انتهى التصوير قبل فرار بن علي، وصوِّر جزء منه في منطقة الحوض المنجمي التي انطلقت فيها الاحتجاجات الاجتماعية سنة ٢٠٠٨ لتنتهي في سيدي بوزيد في ١٧ كانون الأول (ديسمبر) 2010 مع سقوط النظام وإعلان تونس منطلقاً للثورات العربية التي ما زال الجدل بشأنها لم ينته حتى اليوم!