ليس مبالغة القول إنّ هادي زكاك (الصورة) أحد أفضل المخرجين اللبنانيين في صناعة الأفلام الوثائقية. حتى الأمس القريب، كانت أفلامه تتسم بالموضوعية وتقارب المواضيع مقاربة عميقة وشاملة. غير أنّ انحيازه إلى المضمون الوثائقي كان يشدنا إلى الأفكار أكثر من النواحي الفنية رغم جودتها. هذا الوصف لا ينطبق على فيلمه «مارسيدس» الذي يعرض حالياً ضمن فعاليات «المهرجان الدولي للسينما الوثائقية» في كوريا الجنوبية.«حرب السلام»، «درس في التاريخ»، «أصداء شيعية»... أعمال وثائقية أفرزت مخرجاً مؤهلاً لكتابة تاريخ لبنان وحروبه الكثيرة. لكن في «مارسيدس»، يقدم زكاك نفسه مخرجاً ممسكاً بمفاتيح السينما الوثائقية، قابضاً على العناصر الكفيلة بجعل فيلمه منتجاً فنياً خالصاً. هو شريط صامت يستغني عن الحوار والشهادات في لعبة فانتازية تتخذ من المارسيدس محوراً لكتابة تاريخ لبنان.

هذه السيارة الفخمة هي نفسها سيارة التاكسي الشعبية، وهي نفسها القاسم المشترك بين الفقراء من جهة والزعماء وعناصر الميليشيات من جهة أخرى. هي البطلة المطلقة للفيلم بطرازاتها كافة، تنتفض، تعشق، تمارس الجنس قبل أن تصيبها شظايا الحرب ويأكلها الصدأ. يبدأ الفيلم منذ نهاية الخمسينيات ومرحلة الرخاء الاقتصادي الذي عرفه لبنان وصولاً إلى الحرب الأولى وانحدار السيارة لتصبح سيارة العامة. يكتب فصول تلك الحرب بملاحقته لعائلة المارسيدس الألمانية في تحولاتها. عبرها، يتحدث عن تقسيم بيروت والاجتياح وعدوان تموز، والتحرير والإعمار (بحجّته تدمرت بيروت مجدداً وفق ما يصوّر الفيلم التأريخي)، وصولاً إلى الاغتيالات السياسية التي أعادت تصفير الزمن لتطلقه صراعات جديدة. ينسج علاقة عاطفية بين المشاهد والسيارة بعد منحها كل عناصر الأنسنة، معتمداً على كادرات الكاميرا التي جعلت الفيلم تحفة تجمع بين الفكر ونقد الحرب والنوستالجيا التي تمثلها السيارة. أصرّ زكاك على بثّ كمّ هائل من أرشيف الحرب، ما يعكس عدم استهتاره بالمضمون على حساب الفكرة. أراد فيلمه صامتاً، واستعاض عن الحوار بالنصوص المكتوبة التي تقطع الفيلم وتحدد إطاره الزمني. نصوص لا تخلو من الطرافة، كوميديا سوداء تضحك المشاهد بقدر ما تبكيه.
«مارسيدس» يستحق دخول المكتبة السينمائية من باب الأفلام المشغولة بفن وذكاء. لكن المعضلة تبقى: هل يتعظ اللبنانيون حقاً؟ يبدو أنّ العقول لا تزال كـ«مارسيدس» زكاك... صدئة.