لا يزال خبر الدعوى المرفوعة من قبل «حزب الله» على الإعلامية ديما صادق (الأخبار 2/11/2015) مدار سجال عام، خصوصاً في الفضاء الالكتروني. مناصرو «حزب الله» يبحثون عن «البوست» المفقود، موضوع الدعوى، عارضين المقالات التي كُتبت عنه في حينه على أكثر من موقع الكتروني، ولم تنف صادق لأيّ من هذه المواقع ما نسب إليها من كلام. في المقابل، يهاجم مناصرو صادق «حزب الله» الذي «يكمّم حرية التعبير»، علماً أن كثيرين منهم ينتمون إلى أحزاب سياسية كان زعماؤها أوّل من بادر إلى رفع دعاوى على الصحافيين.
هذا الواقع لا يسهّل مقاربة قضية ملاحقة الصحافيين من قبل السياسيين بطريقة مهنية. إلا أنّ المحاولة تبقى خط الدفاع الأخير عن هذه المهنة، وأصحابها الحقيقيين. والسؤال الذي نطرحه هنا، لمَ أثارت قضية ديما صادق كلّ هذه الضجة، على الرغم من مئات الدعاوى المرفوعة من سياسيين على صحافيين في القضاء اللبناني؟ لم صمت الصحافيون المتضامنون، عما يعتبرونه اليوم تكميماً للأفواه، طيلة الفترة الماضية؟ ألا يشكّل هذا التضامن، المطلوب في الجسم الصحافي، مؤشراً إلى ما آلت إليه هذه المهنة؟ ألا يثبّت بعضاً من التهم الموجهة إليهم؟ هي أسئلة بأجوبة معروفة، لذا فلندخل في صلب الموضوع.
حتى الآن، لا نعرف ما هو الرقم الذي ستحمله الدعوى ضدّ صادق في سجّل محكمة المطبوعات، في حال أحيلت إليها، وليس إلى مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية. لكن ما نعرفه أنه منذ بداية العام الحالي حتى هذه اللحظة، يحمل هذا السجل مئة وسبع دعاوى رفعها سياسيون وأحزاب سياسية وأصحاب مؤسسات و«الحق العام» ضدّ صحافيين ومؤسسات إعلامية. تمّ تسجيل هذه الدعاوى، خلال عشرة أشهر، و«الحبل ع الجرّار». وإذا أردنا تقسيم هذا العدد على ثلاثمئة يومٍ (هي عدد أيام الأشهر العشرة)، يمكننا تسجيل دعوى كل يومين، «يعني شي دعوتين ونصّ بالجمعة»، يقول الوزير شربل نحّاس متهكّماً. وهذا إن عنى شيئاً، فهو يعني أنّ عين الرقيب «شغّالة» لتسجّل كل شاردة وواردة، قد تحمل ما يرى فيه صاحب الدعوى قدحاً أو تحقيراً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تسفيهاً أو أخباراً، يراها المدّعي، كاذبة ومغرضة.
المشكلة أن ما يراه المدّعي، هو غالباً ما تراه المحكمة. تفيد الأرقام أنه جرى بتّ 82 ملفّاً خلال هذا العام (من أصل 280 ملفاً تبتّ تباعاً)، وصدرت أحكام بها. وكان اللافت ـ أو بتعبير آخر المؤسف ـ أن جميع هذه الأحكام غرّمت الصحافيين مبالغ مالية، لا طاقة لكثيرين منهم على دفعها للسياسيين. أضف إلى ذلك أن 99% من الأحكام الصادرة «ثبّتت» التهم المنسوبة إلى الصحافيين، مقابل 1% من «البراءة» التي لا يعوّل عليها. إذ أنها جاءت، إما لعدم كفاية الدليل، أو لأن المدّعين أسقطوا الدعوى، أو لمرور الزمن. لكن تجدر الإشارة هنا إلى أن الإعلاميين لا يقفون مكتوفي الأيدي، فغالبية هذه الأحكام أيضاً يستأنفها هؤلاء. وهذا إن دلّ على شيء، فهو يدلّ على أن هناك شكوكاً بصوابية الأحكام.
في سجلّ محكمة المطبوعات اليوم، أسماء كثيرة لإعلاميين «مديونين» لسياسيين وأحزاب. لا مجال للتفاوض على هذه الأموال «معك أو ما معك»، ستدفعها عاجلاً أم آجلاً. لا وجود لسياسيين يسامحون، فهذه الكلمة غير واردة، خصوصاً إذا كانت الدعاوى ستدسّ في الجيب أموالاً إضافية. وربما كان «المحظوظان» الأكبر هنا ــ على الأقلّ بالنظر إلى الملفات المبتوت بها ــ هما اللواء الركن المتقاعد جميل السيّد، ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع. نقع في السجّل على 15 دعوى رفعها السيّد على صحافيين، فيما ينتظر جعجع البتّ في أحد عشر ملفاً. والطريف أن كلّ سياسي، محسوب على طرفٍ معيّن، «يركّ» على رفع دعاوى على إعلاميي الطرف السياسي الذي يعاديه. هكذا، نجد مثلاً أن مجمل دعاوى السيّد كانت موجّهة صوب إعلاميي موقع «القوات» اللبنانية، فيما يركّز جعجع على صحيفة «الأخبار» (13 دعوى بحق الزميل غسان سعود مثلاً) وصحيفة «السفير».
ليس السيّد والحكيم وحدهما من يشغّل عين الرقابة. ثمة كثر آخرون منهم، على سبيل المثال لا الحصر، العماد ميشال عون، والوزير الياس بوصعب، والنواب فؤاد السنيورة ونقولا فتوش وهادي حبيش وجورج عدوان، ورئيس الجمهورية الأسبق ميشال سليمان، ورئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي، والنائبان السابقان زاهر الخطيب ونجاح واكيم.
لا يقف الأمر عند السياسيين. هناك آخرون «بلّوا» أيديهم أيضاً، ولو بنسبة أقل بكثير من السياسيين.

منذ بداية العام الحالي،
سجّل 107 دعاوى ضدّ صحافيين ومؤسسات إعلامية

نذكر منهم محامون (طارق شندب، وأشرف الموسوي، ومي الخنسا)، ورؤساء أحزاب (فايز شكر)، وأحزاب (القوات اللبنانية والكتائب)، وشركات (شركة «سكوب بروداكشن» وشركة «طيران الشرق الأوسط»)، وفنانون (شذى حسّون)، وسفارات (السفارة السعودية)، ورؤساء بلديات (رئيسا بلديتي بيروت والبربارة)، ونقابات (نقابة الأطباء في بيروت)، وصحافيون أيضاً (نقيب الصحافة عوني الكعكي). وفوق هذا كله، هناك الدولة اللبنانية (هيئة القضايا عن الدولة اللبنانية ومديرية الأحوال الشخصية).
لكن، وإن كان التسليم بأن محكمة المطبوعات قد أنشئت للبتّ في هذه النزاعات، وبالتالي لا يتوجّب علينا استغراب هذا العدد من الدعاوى المرفوعة أمامها، إلا أن المستغرب هو نسبة السياسيين المتقدّمين بغالبية هذه الدعاوى. إحصائياً، يوحي العدد الكبير لأصحاب الدعاوى من السياسيين بأنّ «لا أحد حريص على شرفه إلا السياسيين» بحسب أحد الظرفاء، بدليل أنّ عدد الدعاوى المقدّمة من أفراد ـ مواطنين ـ يمكن لأصابع يدٍ واحدة أن تحصيهم. هؤلاء «الحريصون على شرفهم»، هم أنفسهم الذين تقاذفوا الاتّهامات بسرقة المال العام، على الهواء مباشرة، في زحمة الحديث عن فواتير الكهرباء التي لم تُسدّد منذ 15 عاماً. ويمكن لمن نسي أن يسأل النائب العام المالي علي ابراهيم الذي اعتبر جلسة مجلس النواب التي بثّت على الهواء مباشرة بمثابة إخبار للتحقّق مَن هو «الحرامي»؟ الإخبار سيدلّكم على غالبية هؤلاء الشرفاء الذين يشكّلون النسبة الأكبر من المتقدمين بالدعاوى.
لكن، لا يلغي كلّ هذا أن هناك صحافيين يرتكبون أخطاء مهنية وأخلاقية، بحق المواطنين أولاً، قبل السياسيين. ويمرّ افتراؤهم بلا أدنى محاسبة، يفترض أن تجريها نقابة هؤلاء في الدرجة الأولى، قبل محكمة المطبوعات.




المشنوق بين ديما صادق ومحمد زبيب


كان لافتاً إعلان وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق التضامن مع الإعلامية ديما صادق والتأكيد على حقها «في طرح الأسئلة»، مستعيناً في بيان أصدره بفقرةٍ من الدستور تتعلق بالحريات.
المشنوق الذي سارع للتضامن مع صادق، هو نفسه الذي ضاق صدره من صورة لشيك تقاضاه من «بنك المدينة» عام 2012، ووضعها الزميل محمد زبيب على صفحته على الفايسبوك. لم يكن ما أورده زبيب منشوراً عادياً، بل «نسخة طبق الأصل» لوثيقة تطرح السؤال عن تورّط السياسي المذكور في قضية فسادٍ عالقة منذ 12 عاماً. ما الذي حصل حينها؟ انبرى المشنوق «لتحصيل شرفه» ورفع دعوى ضدّ الصحافي (الذي يحق له طرح الأسئلة، بحسب المشنوق) الذي أبرز مستندات تؤكد صحة ما أشار إليه، في حين لا تزال قضية صادق ضبابية.
هذه الاستنسابية تحيلنا على الحديث عن حملات التضامن التي يحظى بها المدّعى عليهم. عندما ننظر إلى «حالة» التضامن (السياسية) مع صادق، لا بدّ من أن يخطر في بالكم هذا السؤال: لم حظيت هذه الأخيرة بحملة تضامنٍ طالت حتّى المشنوق؟ هل الأمر مرتبط بحرية الصحافة كما يقال؟ أم لأنّ «حزب الله» هو من يرفع الدعوى؟