باريس | يخصص «مهرجان بيروت الدولي للسينما» فعالية خاصة للاحتفاء بسينما المعلم الفنلندي آكي كوريسماكي (1957)، تعرضها خمسة من أشهر أفلامه هي: «استأجرتُ قاتلاً» (1990 ـــ 6و10/10)، «فتاة مصنع الكبريت» (1990 ــ 5 و8/10)، «الحياة البوهيمية» (1992 ـــ 7 و8/10)، «رجل بلا ماض» (2002 ــ 5 و7/10)، وLe Havre (2011 ـــ 4 و9/10). على مدى ثلاثة عقود، ومن خلال عشرين فيلماً طويلاً، فرض كوريسماكي أسلوبه ومكانته كأحد أكبر صناع الفن السابع.
نجح صاحب «رجل بلا ماض» (الجائزة الكبرى، «كان») في تحقيق ذلك، رغم أنّه حين تقدّم إلى معهد السينما في مسقط رأسه في هيلسنكي، وهو في سن العشرين، رسب في الامتحان. ورُفض قبوله آنذاك بسبب رؤاه المغرقة في السوداوية. ما جعله يتجه لبعض الوقت إلى موسيقى الروك، حيث أسّس فرقته الشهيرة «كاوبوي لينينغراد» التي اقتبس منها فيلميه الشهيرين «كاوبوي لينينغراد في أميركا» (1989) ««كاوبوي لينينغراد يلتقون موسى» (1994).
دخل كوريسماكي عالم السينما على نحو عصامي. بدأ ممثلاً ثم كاتب سيناريو في أعمال شقيقه الأكبر ميكا كوريسماكي. وكان في الوقت ذاته يشتغل في مهن يدوية بسيطة لكسب لقمة العيش. عمل كنّاساً ونادلاً وبنّاءً وساعي بريد. ومن عوالم المهمّشين والعمّال الفقراء، الذين عاش بينهم وعرفهم عن قرب في شبابه، اقتبس شخوص أشهر أعماله، وخصوصاً أفلام «الثلاثية البروليتارية» («ظلال الجنة»/ 1986، «أرييل»/ 1988، و«فتاة مصنع الكبريت»/ 1990).
في عام 1983، أُتيحت له الفرصة، بعد سنوات من التخبط والمحاولات الفاشلة، لتقديم عمله الروائي الأول، فاختار رهاناً صعباً: اقتباس رواية «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي في فيلم لا تتجاوز مدته ساعة ونصف ساعة! كان ذلك أشبه بالمهمة المستحيلة، لكنّه نجح في رفع التحدي. وإذا بالشهرة تنزل عليه دفعة واحدة، حيث قوبلت باكورته تلك بحفاوة نقدية عالمية، لكنه قرّر لاحقاً أن يسلك منحى مغايراً تماماً. ابتعد عن السينما الملحمية الكلاسيكية، واتجه نحو الفكاهة العبثية التي استطاع من خلالها أن يكتسب ملامحه الأسلوبية الخاصة، ذات المنحى المينيمالي، حتى بات يُلقَّب بـ «بيكيت السينما».
بعد «الثلاثية البروليتارية»، قدَّم «استأجرتُ قاتلاً» (1990)، و«الحياة البوهيمية» (1992)، و«خذي وِشاحك يا تاتيانا» (1994). في عام 1996، قدِم إلى الكروازيت للمرة الأولى برائعته «إلى البعيد تحلّق الغيوم»، التي كرّسته نهائياً في مصاف كبار صناع السينما، لكنه لم يأبه بالحفاوة النقدية والنجاح العالمي، وانقطع عن الأوساط السينمائية ثلاثة أعوام، ليعود عام 1999، بفيلم تجريبي صامت صوّره بالأبيض والأسود، بعنوان «جحا».
ورغم الشعبية الكبيرة التي يحظى بها على الدوام في «مهرجان كان»، حيث يعد أحد «زبائن» المهرجان المنتظمين، إلا أنه لم ينل أي مكافأة على «الكروازيت» لغاية عام 2002، حين انتزع «الجائزة الكبرى» عن رائعته «رجل بلا ماض»، التي شكَّلت الجزء الثاني من «ثلاثية الأبطال التائهين»، التي بدأها بـ «إلى البعيد تحلِّق الغيوم»، ليختتمها بعد 15 سنة بأحدث أفلامه Le Havre، الذي عُرض في الدورة ما قبل الأخيرة من «كان». يروي الشريط قصة كاتب بوهيمي اسمه مارسيل ماركس يجوب العالم في رحلة تيه طويلة تنتهي به إلى ميناء «لو هافر» شمال فرنسا. هناك، يتعرف إلى سيدة مسنة تستضيفه في بيتها وتعتني به. وفي لحظة تحوّل إنسانية مبهرة، يخرج مارسيل ماركس من العدمية التي عاش فيها طوال حياته، حين يتعرف إلى مراهق نازح من أفريقيا تطارده الشرطة الفرنسية لأنّه مهاجر سري، ويسعى بكل الوسائل إلى مساعدته من أجل تحقيق حلمه في عبور بحر المانش نحو الفردوس البريطاني. لكن هذا المنحى النضالي لم يبعد كوريسماكي عن عوالم الـ Burlesque، وروح الفكاهة القاتمة المستوحاة من عوالم المهمشين والمسحوقين. حتى إنّ بعضهم قارن هذا الفيلم الذي يعد الأكثر اكتمالاً في أعمال كوريسماكي منذ «رجل بلا ماض» بالنفس الإنساني الساحر في أعمال شارلي شابلن. كون هذا الفيلم ناطقاً بالفرنسية، مثل فرصة لكوريسماكي ليوجّه ــ من خلال حواراته الساخرة ــ تحية عرفان إلى السينمائي الكبير جاك تاتي، الذي يعدّه أحد معلميه...