إضافة إلى كوريسماكي، يوجّه المهرجان تحية إلى معلّم آخر هو ستانلي كوبريك (1928 ــ 1999) عبر عرض أربع من روائعه: «2001: أوديسة الفضاء» (1968 ــ 6 و9/10)، و«سترة معدنية كاملة» (1987 ــ 5/10)، و«د. ستراينجلوف» (1964 ــ 7و9/10) و«لوليتا» (1962 ــ 5و9/10). يسهل أن تحبّه رغم احتمال أن تكون هذه العلاقة معقدة. الرجل عبقري بلا شك، لكنّه عصيّ على الفهم. في معظم أفلامه، هناك حرفية تناهز الكمال على المستوى التقني. وفي السياق الاجتماعي لأي فيلم، هناك محوران على الأقل لتفسير الحبكة، بين القصة المباشرة ودراسة الحالة الإنسانية تحت تأثير الأحداث الكبيرة. الأحداث كبيرة فعلاً في بيئة شخصياته التي يضعها تحت ضغط هائل، كما يضع ممثليه وطاقمه أثناء التصوير حتى الانهيار. في مسيرته السينمائية، 13 فيلماً طويلاً فقط أخرجها على فترات متباعدة، آخرها «عيون مغلقة بإحكام» (1999) الذي توفي كوبريك بعد فترة بسيطة على الانتهاء منه.

بعدما أنجز «سبارتاكوس» (1960) ونجاحه نقدياً وتجارياً، غادر كوبريك هوليوود نهائياً إلى لندن. هناك، أخرج «لوليتا» المقتبس عن رواية فلاديمير نابوكوف الشهيرة، عن البروفيسور الأربعيني وهوسه بالمراهقة ذات الأربعة عشر عاماً. بدأت هنا رحلته مع الجدل. وفي موازاة لأجواء الذعر النووي، اقتبس رواية أخرى وأخرج الكوميديا السوداء «د. ستراينجلوف» عائداً إلى ثيمة الحرب التي تطرّق إليها سابقاً في «دروب المجد» (1957). هنا، نرى سخريته اللاذعة من حبّ الدمار والقنبلة (مع بيتر سيليرز وجورج سي سكوت) عبر الحوارات الجنونية لجنرالات الحرب الأميركيين، والكارثة النووية. عمل بعدها لأربع سنوات لإنجاز «2001: أوديسة الفضاء» الذي يتخذ منحى أكثر تأملاً في سردية فلسفية لتاريخ الإنسان من خلال ثيمة الخيال العلمي. بلغ التناسق الشكلي أوجه في الشريط الذي لا يزال صامداً إلى اليوم رغم تطور المؤثرات البصرية. أكمل كوبريك مشواره في استكشاف ثيمات السينما المختلفة، من الحقبة التاريخية في «باري ليندين» إلى الرعب في «البريق» وعودة إلى الحرب مع «سترة معدنية كاملة» حيث الجانب المظلم للإنسان ولاأخلاقية الحرب. ذكر كوبريك مرة أن «للمخرج الحرية ذاتها التي يمتلكها الروائي عند شرائه الورق». هكذا فعل دوماً، متحكماً في جميع نواحي الفيلم، ومقتبساً الروايات على طريقته. هوسه بالكمال دفعه إلى فترات تصوير طويلة تمتد على سنتين. لاعب شطرنج محترف مثله ليس لديه مشكلة مع الصبر. لكنّ سعيه إلى الكمال كان بمثابة حاجز أمام معالجات أكثر راديكالية لمسائل القوة والحالة الإنسانية. كوبريك أحد عظماء الفن السابع بالتأكيد، والعودة إليه مطلوبة دائماً.