ظلت أعمال الروائي الفرنسي لوي فردينيان ديتوش المعروف باسم «سيلين» (1894ـــ 1961) بمنأى عن لغة الضاد فترةً طويلة بسبب صعوبة ترجمتها، وللفحش والفظاظة والسوقية التي تهيمن على مناخاته الروائية، ذلك أنّ هذا الطبيب الفوضوي والكاتب المارق أطاح رصانة لغة موليير، مستنجداً بمفردات القاع في بناء سرد مغاير، يبدو للوهلة الأولى سرداً مفككاً، لكنه في الواقع يفيض بابتكارات لفظية مستعارة من لغة الحياة الشوارعية، في تحدٍّ معلن لحرّاس الفضيلة في الأدب. هناك سبب آخر للتعتيم على منجزه الإبداعي، فقد كان معادياً شرساً لليهود، ومناصراً للنازية، ولولا إقامته في الدانمارك عشية انتصار الحلفاء وهزيمة هتلر، لكان مصيره الموت شنقاً... هو الذي قال عنه أندريه مالرو: «إذا كان بلا شك شخصاً وضيعاً، فإنّه كاتب عظيم».
المترجم السوري غازي أبو عقل تصدى أخيراً لجوانب من سيرة صاحب «موت بالتقسيط» واختار ثلاثة نصوص عن حياته وأدبه ومقابلة معه، وجمعها في كتابٍ واحد بعنوان «سيلين» (دار الحوار ــ اللاذقية). في مقدمة الكتاب، ينعى أبو عقل الترجمة العربية لرواية سيلين «رحلة إلى آخر الليل» متهماً مترجمي الطبعتين المصرية والسورية للرواية بتشويه الأصل وعدم فهم أسلوبية الكاتب، وإذا ببعض العبارات تذهب إلى عكس المعنى. صعوبة الترجمة، كما يقول تأتي من «قدرة سيلين على مزج الهذيان والواقع. وإلى معجزة ربط الكوميديا والبؤس، وتحويل اللغة الشفهية إلى شكل كتابي، ما يخلق إشكالات عويصة لمترجم سيلين».
في الكتاب الأول «حياة سيلين»، يتتبع الأكاديمي والكاتب فريدريك فيتو، السيرة الذاتية لصاحب «مدرسة الجثث» المولود في مدينة كوربفوا، مشيراً إلى أن ولادته الحقيقية كانت لحظة صدور روايته الأولى «رحلة إلى آخر الليل» (1932)، إذ نتعرّف إلى روائي متشنّج وشاهد هذياني على عصره، نظراً إلى غنى حياته المضطربة وتنقّلاته بين جغرافيات متعددة تحت وطأة الحرب وكوابيسها المرعبة، واكتشافه بؤس ضواحي المدن الكبرى، بالإضافة إلى تشكّلاته الأولى «الأرجوحة المسماة سيلين مكوّنة، فعلاً، من طرفين: الأول هو الواقع الثقيل الخانق، والدنيء القذر، والثاني هو الفرار إلى خارج الواقع» يقول.
أثناء دراسته الطب، كان سيلين قد اختار حياة طبيب هنغاري يدعى فيليب إيغناس سيميلفاس موضوعاً لأطروحته. كتب سيلين أطروحته هذه عن رائد اكتشاف «جراثيم العدوى، وحمّى نفاس الولادة» (1924)، كأنه يكتب رواية عن «مملكة الهيجان الجنوني».
في الكتاب الثالث «سيلين الفضيحة»، يسعى هنري غودار الأكاديمي المتخصص في أدب سيلين إلى إخراج صورته من الوصفة الجاهزة: «كاتب عظيم لكنّه لاساميّ فظ عنيف»، ذاهباً إلى جوهر تجربته في الكتابة، وأسباب رفضه بقوله «قراءة سيلين عسيرة وشاقة، فأسلوب اللغة والسرد يزعج عاداتنا الراسخة. ولكي نتمتع بما تمنحه لنا هذه الكتابة، وهذا السرد المتجددان، ينبغي أن نبدأ بقبول ما يفقدنا الاستقرار». هذه الكتلة المغناطيسية عطّلت عملياً أكثر من بوصلة واحدة، وفق ما يقول غودار، إذ يطالب، بإلحاح، بالفصل بين هوية سيلين الشخصية، وصنيعه الأدبي الاستثنائي بإعادة حق المواطنة إلى اللغة الفرنسية الشعبية، بعدما احتُقرت طوال قرون. خلافاً لجملة مارسيل بروست الطويلة والمحتشدة بالأفكار، فقد عمل سيلين على النقيض تماماً، وذلك باستثمار مزايا الخطاب الشفهي المألوف، وقوة الحدس، والكثافة، وهو بذلك انتهك الممنوعات من دون وجل. ويخلص غودار إلى أن سيلين هو كاتب القرن العشرين في رحلة هوميرية عنوانها العنف والدمار والبؤس. ولعل تأثيره يكمن في مهارته باستعادة الجسد إلى حقل الأدب «هذا الجسد الذي يُكلّف نفسه بنفسه التعبير بواسطة الغثيان عن كل قرف الدنيا». ويتمم غودار صورة سيلين بأنّه ممثل «كتابة العنف المضاد». صحيح أنه يوجه لكماته إلى أصحاب السلطة، لكن هذا العنف سيتسرب إلى الذات «كلمات قليلة تكفيه دائماً كي يضعنا وجهاً لوجه مع تبعات عبوديتنا لجسدنا». وسوف يذهب بالعنف بعيداً في «المقالات المقذعة» عبر خطاب تحقيري وعنصري ضد اليهود والسود. هناك الجانب الشعري والهزلي في كتاباته، أو ما يسمى «النغمة الموسيقية» التي تحكي «ألم المنبوذين والمهمشين»، بالإضافة إلى جرأته في «وضع جلده على الطاولة» بوصفه فضيحة متنقّلة.. فضيحة المتعة «وتحويل كل تعريةٍ لأسوأ ما في ظرفنا البشري إلى ضرب من الانتصار».