يلتفت علي سفر في مجموعته الشعرية الجديدة «طفل المدينة» (دار أزمنة – عمّان) إلى ما فاته من جحيم الحياة ومسرّاتها الخاطفة. غرق الشاعر السوري طويلاً في متاهة اللغة لمصلحة الهذيان البلاغي، إلى جانب كوكبة من شعراء التسعينيات. وها هو يكتشف معنى آخر للجملة الشعرية، وعتبات مغايرة للسرد محمولة على مخزون إيقاعي، لم يكن جزءاً من المتن القديم لقصائده. وإذا بالمشهد يتكشّف تدريجاً عن أسى مقيم، وطفولة متروكة لحنان مغدور. فقدان الأب المبكّر، يستدعي تلك الطفولة الموؤودة، حين يستعيدها من موقع الأب هذه المرّة. يفتتح صاحب «اصطياد الجملة الضّالة» كتابه بنص سردي يبرر خلاله خسائر «الحصان المقتول». كأنّ سيرته مقابر ورمال ووحشة، ذلك أنّ «غرقى الذاكرة» لا يتوقفون عن نداءات الاستغاثة لتصحيح ما حدث قسراً. واو العطف التي تسبق الجملة الأولى في معظم قصائد المجموعة، تبدو كأنها استكمال لسيرة مغيّبة للطعنة الأولى «تكفي موتى من مقاسنا»، أو «صورة لم تحمّض جيداً».

إعادة تظهير الصورة إذاً، هي مسعى علي سفر إلى فحص مرآته الشخصية، وترميم زجاجها المحطّم تحت وطأة الفقدان «أعجز عن معرفة ما يكفيني من مسافة لإغلاق حصتي من الموت». لا وقت للمسرّات هنا، فمعجم الموت يلقي بظلاله على أي مسرب مباغت للبهجة العابرة، فهو «خياط العتمة المؤبدة». خياط يطرّز الوقت لصناعة الأكفان. موتى يعبرون صحراء لا نهائية بما يشبه حداءً طويلاً. يغيبون في الممرات «أخاف الموت في الردهة» يقول. إدراك صاحب «يستودع الإياب» بأن الانشغال بالمعنى والنبرة الإيقاعية وحدهما، قد يطيح شعريته، وهو ما تقع به بعض نصوص المجموعة، يقوده في نصوص أخرى إلى وقفات تأمل ومراجعة وتقطير، بقصد تخفيف حمولة الأسى، وتشذيب الجملة مما هو فائض عن مقاصدها البلاغية «شمس معلّقة في صندوق فرجةٍ مظلم»، و«قبل الصيف، واحد منّا سيبكي على الموتى ليحتفظ بملحهم». في المآل الاخير، يكتب علي سفر العتمة، مشغولاً إلى الحافّة بخشب التوابيت أكثر من انشغاله بالأشجار، لتكون «ذاكرة أو تعويذة أو جملةً، يكتبها الوارثون على رخام القبور»، وكذلك «بمرارة الزبد الساكن محمولاً على سجادة الفقد، أضعت شيئاً بين الجملتين اللتين سربتهما لي همساً قبل أن نرتفع بالمنطاد إلى أعلى شغفاً بالموت».