صور فوتوغرافية، معظمها بالأبيض والأسود، تبحث في المدن، وخصوصاً بيروت، عن تجريد ما، عن «الخطوط، وما بينها» ضمن هندستها وعمرانها. إنه المعرض الأول لسيرج نجار (١٩٧٣) الذي تحتضنه غاليري «كتانه كونيغ ـــ تانيت». نجار محامٍ أغرته الصورة الفوتوغرافية منذ الصغر، لكنه بدأ التصوير جدياً منذ سنة ونصف سنة فقط. يخبرنا بشغف عن ولعه بالفنون منذ شبابه. إلى جانب دراسة المحاماة، كان يتابع مختلف التيارات الفنية، وخصوصاً المدارس الفنية الألمانية في أوائل القرن العشرين. وفي أحد الأيام، ومن دون علمه، سجّله أخوه في دورة للتصوير الفوتوغرافي في «جامعة القديس يوسف» في بيروت. لم يمانع يومها، بل قرر خوض تجربة مختلفة.
في السادسة من كل صباح، كان المحامي يصحو ويخرج من بيته مع هاتفه الـ «آي فون»، ليتجول في العاصمة اللبنانية ملتقطاً الصور، قبل أن يعود عند الثامنة صباحاً ليرتدي زي المحامي ويحضر جلسات قصر العدل: «اتهمني المقربون يومها بالجنون»، لكنّ سيرج كان في عالم آخر، يعيد اكتشاف مدينته، ليس عبر صور رومانسية للبحر، والمغيب... بل عبر هندستها، ومبانيها، وجدرانها، وبشرها.
تطورت علاقة نجّار بصور هاتفه، وبدأ بتحميلها على برنامج «إنستغرام». في غضون أسابيع معدودة، أصبح لهاوي الصور أكثر من 13 ألف متتبع على موقع تشارُك الصور العالمي. بعدها، تلقى رسالة إلكترونية من مدير الموقع، يخبره فيها أنه اختير لتقديم صوره على المدونة الخاصة بـ «إنستغرام» لتُعرض على أكثر من ثلاثة ملايين مشترك.
سيرج الذي تربى في الملاجئ، وجد تفاعلاً مختلفاً مع باريس، التي لجأ إليها خلال الحرب الأهلية. عند عودته إلى بيروت، قرر أن ينظر إلى المدينة من زاوية جديدة، أن يبحث عن الجمال في كل ما تقع عليه عيناه، ويلتقطه بعدسته. مفاجأة «إنستغرام» دفعته إلى نوع من الهوس. راح يستغل كل لحظة فراغ ليلتقط صورة جديدة. على درج قصر العدل، لاحظ يوماً رجلاً ببدلته السوداء يعاند الهواء صعوداً، فلم يتردد في التقاطه بعدسته، لتولد صورة «الطريق إلى السلطة». مغامرة سيرج الفوتوغرافية سوف تلقى ترحيباً من قبل قناة «سي. إن. إن»، التي اختارته مع تسعة آخرين من العالم، أصحاب الصور الأكثر متابعة على «إنستغرام».
أما لمعرضه الحالي Lines, Within، فقد اختار سيرج بعض الصور التي ترتكز في معظمها على الخطوط، والانعكاسات، وعلاقة الإنسان بالسياق المحيط به. في «إيقاع»، يدع خيالات الدرج المتباعدة والموزعة على حائط أبيض، ترسم إيقاعها الموسيقي. أما في باحة المبنى الجديد للجامعة اليسوعية (طريق الشام، بيروت)، الذي أنجزه المهندس يوسف طعمه، فتختلط التفاصيل على الناظر بين حدود المبنى وانعكاساته على الزجاج، وعلى المياه التي تفترش الأرض، والناس الموزعين في المساحة. وفي النفق الذي يصل «الحبتورين» في منطقة سن الفيل، تمتزج الخطوط الهندسية الدائرية للنفق مع ديكور المدينة الفوضوي في الخلفية.
يخصص سيرج بعض الصور لأبنية بيروت، منها صورة «مسرح مدينيّ»، حيث نرى مبنى عند منطقة الأونيسكو بشبابيكه الدائرية وبراديه الملونة، لكن الأجمل يبقى صورة لإحدى واجهات مبنى في بيروت المليئة بعلب المكيفات الهوائية مع بعض آثار شظايا الحرب الأهلية. جمالية تلك الصورة تتخطى التفصيل المعماري، لتصبح شاهداً بصرياً على تراكم الأبعاد الاجتماعية، والطبقية، والاقتصادية، وتاريخ مدينة كونت تلك الواجهة التي يمكن تجريدها في آن واحد من كل تلك الإسقاطات ومقاربتها بجماليتها فقط.
يُبقي سيرج نجار على الشكل المربع لصوره. هو شكل اعتاده وارتاح إليه منذ أن بدأ التصوير بواسطة «إنستغرام». يفضل عدم تعديل صوره رقمياً، مبقياً النتيجة الأساسية، ومستعيناً من الأساس بفلترات لعدسته. في صور مربعة، ومع «كونتراست» (تناقضات) عال، نعيد اكتشاف العاصمة اللبنانية بعدسة سيرج. هي مساحات وأبنية، نعرفها، أو عبرنا بجانبها يوماً، لكنّ ذلك ليس بمهم، لأنّ نجار لا يحتفي بهندسة بيروت المعمارية فحسب، بل أيضاً يقدّم إلينا طريقة جديدة في النظر اليها في صوره. لذلك تبقى أجمل الأعمال المعروضة، تلك التي تلتبس على المشاهد، فيصعب عليه تحديدها، بل تنقله إلى جمالية مجردة.



Lines, Within: حتى 20 ت1 (أكتوبر) ـــ غاليري «كتانه كونيغ ـــ تانيت» (الحمرا ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/738706 ــ www.galerietanit.com