لو جمعتَ مقاتلاً ماركسياً من الجيش الايرلندي إلى ليبراليّ من عصر نصاعة الليبرالية، لكان الحاصل صورةً شديدة القرب من صورة الدكتور عبد العزيز الخيّر، القيادي البارز في «حزب العمل الشيوعي» وفي «هيئة التنسيق لقوى التغيير الوطني الديموقراطي» في سوريا، الذي اختُطف الشهير الماضي بعد خروجه من مطار دمشق. يذكّرك عبد العزيز الخيّر بجيري آدامز، المناضل والقائد الايرلندي الشهير. يذكّرك بما في جسد هذا الأخير من طلقات الإنكليز وإصراره، رغم ذلك، على أن تكون للنضال الثوري سياسته وثقافته، بل ولياقاته أيضاً. والحال، إنَّ للصور قصّة ممتدّة مع عبد العزيز الخيّر، ربما بسبب تخفّيه واختفائه المديدين: 12 عاماً من العمل السرّي والملاحقة، و13 عاماً من الاعتقال، وصولاً إلى اختطافه الجديد. في الصورة الأشهر لما دُعِيَ «غزوة البيض» أمام مبنى الجامعة العربية في القاهرة، يبدو عبد العزيز مشيحاً بوجهه عن لكمة «ثورية» مسدّدة إليه، وقد أغمض عينيه أشدّ الإغماض عن رؤية «الثورة»، وهي تواصل ما لم يكفّ النظام عن ممارسته على مدى نصف قرن من سحق الرأي المخالف والمجتمع بأسره.
لم يكن قد بان جليّاً وقتها أنَّ ثمّة خطّين في الثورة الواحدة ذاتها، وأنَّ اليد التي ترمي «الحكيم» بالبيض صعبٌ أن تمتّ إلى الحرية بصلة، وأنّها يدُ كلِّ ما هو كفيل بأن يودي بالثورة، شأنها شأن اليد التي تعتقله وتعذّبه.
حين أسهم الخيّر في تأسيس «هيئة التنسيق»، وصولاً إلى الإعلان عنها في 30/6/2011، كانت الثورة السورية لا تزال عفيّة، تحدوها السلمية والمدنيّة وطلب الحرية والكرامة. لم تكن الثورة قد عبّرت، بفعل القمع الوحشي، عن آهاتها الرهيبة: حاجتها إلى وحدة المعارضة، وعون الخارج، والسلاح، وربما الطائفية. حينذاك، بدت «هيئة التنسيق» المكان الذي ينبغي أن يوفّر للثورة صمام أمانها ويضمّ قواها الوطنية والديموقراطية واليسارية جميعاً، من برهان غليون، الذي بقي فترة ممثّل الهيئة في الخارج، إلى «حزب العمل الشيوعي»، الذي يقف الخيّر على رأسه، ذلك الحزب الصغير الذي اشتهر بين أواخر سبعينيات القرن الماضي وأوائل تسعينياته، وترى الآن أبناء تجربته أنّى اتجهت في أنحاء الثورة المدنية المدينية، كأنهم يتدفقون من نبع لا ينضب.
على الرغم من السرّية التي أحاطت بتجربة هذا الحزب، الذي نشأ نشأةً نقديةً في سبعينيات القرن الماضي من حلقات ومشارب ماركسية شتّى تحت مسمّى «رابطة العمل الشيوعي»، وعلى الرغم من «القيادة الجماعية» وغياب ما يُدعى «الأمين العام» في هذه التجربة، يبقى مؤكّداً أنّ عبد العزيز الخيّر كان الرجل الأول في الحزب منذ بداية الثمانينيات حتى اعتقاله عام 1992، ثم بعد خروجه من المعتقل وإلى الآن. وعلى الأقل، كان قيادياً بارزاً، وعضواً في هيئات تحرير صحف الحزب ومجلاته: «الراية الحمراء» و«النداء الشعبي» و«الشيوعي»، التي بلغت مستوىً لافتاً على مستوى النظرية والنضال بمقاييس تلك الفترة، ومقارنةً بما كان يصدر عن الأوجه المختلفة للشيوعية البكداشية (نسبةً إلى خالد بكداش)، بما فيها تلك التي انشقّت عنه.
تحت ضربات القمع المتوالية على ذلك الحزب الصغير، اضطر كثير من كوادره ومناضليه إلى التخفّي. غير أنَّ تجربة الخيّر على هذا الصعيد تبقى الأشهر، إذ دامت ملاحقته 12 عاماً، فضلاً عن ترافقها مع اعتداءات على أهله وأسرته بالضرب والاعتقال والاحتجاز كرهائن.
وعلى غرار تخفّيه وملاحقته، كان اعتقاله مميّزاً في الأول من شباط (فبراير) 1992، إذْ أُلقيَ القبض عليه في منطقة باب الجابية في دمشق القديمة، وكان ذلك مدعاةً لإطلاق النار احتفالاً في ساحة القلعة في دمشق. أُخضع الخيّر لتعذيب وحشي، وبقي معتقلاً من دون محاكمة حتى 1995، حين حكمت عليه «محكمة أمن الدولة» بالسجن 22 عاماً بتهمة «الانتماء إلى جمعية سياسية محظورة، ونشر أخبار كاذبة من شأنها زعزعة ثقة الجماهير بالثورة والنظام الاشتراكي». أمضى الخيّر 13 عاماً في سجن صيدنايا العسكري، قبل أن يُطلق سراحه بعفو رئاسي عام 2005، إثر حملات دولية للإفراج عنه.
في المعتقل، راح «الحكيم»، كما سماه المعتقلون، «يحمي الحياة بلا حدود، ويسافر في طبّه من عهد الطبيب البابلي... وصولاً إلى حقّ الحشرات في الحياة»، كما يقول معتقل أمضى بقربه ما يزيد على العام.
الطبيب الذي لم تُتَح له فرصة ممارسة الطبّ طويلاً قبل تخفّيه، والذي عاين في المعتقل آلاف الحالات، قبل أن يقنع إدارة السجن بتحويل إحدى الزنازين إلى عيادة تستقبل المرضى من السجناء، تبقى صورته الأشهر والأبقى هي التي رسمها له رفيق المعتقل هذا، وهو ينفخ في فم سجين ميّت «روح الحياة»، فقد نفخ حتى احمرّت عيناه ونفرتا حتى كادتا تخرجان من صدغيه، ثم انهمر في بكاء مرير.
خدماته الطبّية لم تقلل حرصه على أداء دوره في خدمات وضرورات السجن الأخرى، من الطبخ والتنظيف إلى التثقّف الذي يمضي في اتجاهات لافتة بالنسبة إلى شيوعي حزبي باقٍ على المتراس. ولعلّه، قياساً برفاقه الذين «تلبرلوا» بشدّة بعد «تمركسٍ» زائد، أحسن المطلعين على الفكر الليبرالي واقتراحاته المتجددة التي لم يكن أكثرهم قد سمع بها.
بعد خروجه من المعتقل، استأنف الخيّر نشاطه الحزبي مع بقية باقية من رفاقه. شارك في تأسيس «إعلان دمشق» وانتخب نائباً للرئيس. بعد انسحاب حزبه من «الإعلان»، أسهم في تأسيس «تجمع اليسار الماركسي» عام 2007، في عودة إلى عمل النمل الدؤوب الهادئ الذي اشتُهر به، واشتدّ إلى حدّ الإنهاك مع اندلاع الثورة في آذار (مارس) 2011.
ربما كان عبد العزيز الخيّر، كما دلّت إطلالاته الإعلامية باسم «هيئة التنسيق»، أفضل ممثّل لخطّ الثورة الوطني الديموقراطي المدنيّ، بعيداً عمّا دفع إليه النظام، ووقعت فيه بعض قوى الثورة، من عسكرة وطائفية وطلب للخارج. ولعلّه أول من لفت الانتباه إلى وجود قوى في قلب الثورة لا تريد سوى تغيير تحالفات سوريا الإقليمية والدولية، أو تتقبّل طائفية «الثورة» ما دام النظام طائفياً، أو تبرر جرائم «الثوار»، مكتفية بتسميتها أخطاءً لأن النظام مجرم، أو ترتمي في أحضان أميركا وتركيا مقابل ارتماء النظام في أحضان روسيا والصين وإيران.
كان عبد العزيز الخيّر، والتيار الوطني الديموقراطي اليساري عموماً، في قلب هذه الثورة منذ البداية ولا يزال. قد تحجب صورتَه ورشدَه الخطايا والمزايدات والديماغوجيا المسنودة بأموال النفط وإعلامه، فضلاً عن عقود الضعف والقمع المديدة، لكنه يبقى حاضراً و«مخيفاً» لكثيرين: من «الثوار» الذين قذفوه بالبيض، ووضعوا الورود على عنق برنار هنري ليفي وجون ماكين، إلى النظام الذي عامله كمجرم على الدوام، وصولاً إلى اختطافه، مع رفيقيه إياس عيّاش وماهر طحّان، بعد مغادرته مطار دمشق قادماً من زيارة إلى الصين للمشاركة في مؤتمر الإنقاذ الوطني.




5 تواريخ

1951
الولادة في القرداحة، سوريا

1976
تخرج من كلية الطب
في جامعة دمشق

1992
اعتُقل أول مرة بعد تخفٍّ دام 11 عاماً ثم أُفرج عنه عام 2005

2011
الإعلان عن تأسيس
هيئة التنسيق الوطنية

2012
اعتُقل في أيلول (سبتمبر) الماضي
بعد خروجه من مطار دمشق
مع رفيقين له