بعد إنهائها دراسات معمقة في فنّ الأيقونة الشرقية سنة 2007، بدا أنّ ريم الجندي (1965) مقبلة على منعطف واضح في تجربتها التشكيلية. الرسامة التي خلطت أجزاءً من حياتها الشخصية مع يوميات راهنة وواقعية، ظلت قريبة من مناخات الـ«بوب آرت»، وظلت أعمالها مدينةً لأصولٍ فوتوغرافية مرسومة على خلفيات متخلية عن منطق التزيين المجاني ومتورطة في موضوع اللوحة. لم تتغير التقنيات التي رسمت بها الفنانة نفسها في معرضَي «أوقات زيارة بينلوب» (2001)، و«أشياء بسيطة» (2003)، لكن هذه التقنيات بدأت تتلقى تأثيرات قوية من فنّ الأيقونة ابتداءً من معرضها «طريق المطار» (2008)، ثم تضاعفت هذه التأثيرات في معرضها «رجال» (2010). هكذا، منحت أشخاص لوحاتها ملامح الأيقونات، لكنّها أبقتهم أسرى الواقع الذي تعيشه. تسلل الفن المقدّس إلى شكل اللوحة وهندستها الداخلية. اكتسبت الوجوه والأجساد مذاقات تاريخية وطبقات أركيولوجية، لكنّ اللوحات واظبت على تمتين صلاتها مع الفنون المعاصرة أيضاً.

المنعطف الذي نتحدث عنه موجود في خلط النبرة المعاصرة بالتاريخ واللاهوت، لكن مع تفريغ الخلاصة الناتجة من فكرة الإيمان. اللوحات هي «أيقونات هرطوقية» بحسب تعبير الجندي التي اهتمت بفكرة أن تكون حفيدة أسلاف كثيرين قدموا إضافاتهم إلى فنون المنطقة، أكثر من اهتمامها بإثنيات أسلافها أو أديانهم.
معرضها الحالي «شجرة العائلة» الذي تحتضنه «غاليري جانين ربيز»، هو ثمرة إضافية لهذا الخليط الهجين أو «الخلاسي»، بحسب تعبيرها أيضاً. التسرّبات الأيقونية الخَفِرَة التي تُرجمت لونياً وشكلانياً في معرضَيها السابقين، تتحول هنا إلى مادة لبحث سوسيولوجي ونفسي عميق، وتصبح الشجرة ذريعةً للتفتيش عن جذور سلالية محكومة بجذور فنية. هكذا، بات ممكناً أن نشاهد في المعرض لوحات مشبعة بروحية الأيقونة، وتنتمي إلى زمنها المعاصر. كأنّ الرسامة تعيد الاعتبار لرسومات الواسطي الإسلامية ذات البعد الواحد، وفناني الكنائس المجهولين، من دون أن تتخلى عن صلاتها مع أندي وارهول وماغريت أيضاً. كأن تاريخ المنطقة عرّف ريم الجندي على تاريخها الشخصي. «أنا ابنة هذه الطبقات والأخلاط»، تقول الرسامة التي كلما تأكدت أنها هجينة جذور متعددة، أشعرها ذلك بالاطمئنان، مقارنة بالأشخاص الأنقياء المهددين بالإصابة بأنواع من العنصرية. اللوحات المعروضة تغري المتلقي بأفكارها السلالية، لكنّ براعة ريم الجندي في تذويب كل ذلك في مشهديات حياتية معاصرة، تسهّل علينا إدخال المعرض في مسار تصاعدي طبيعي لتجربتها. هكذا، تصبح اللوحات ترجمة لموضوعات تبدأ بنشأة فكرة شجرة العائلة، كما في لوحة «بداية شجرة العائلة» التي يتعانق فيها حواء وآدم في لحظة جنسية، وتنتهي بلوحة «حفيد الإمبراطورية» التي رسمت فيها ابنها وأباها وجدها. بين اللوحتين، لوحات تظهر فيها عائلات فلسطينية وكردية وأرمنية ويهودية، وأخرى تظهر فيها تفاصيل عائلية أصغر. إلى جوار اللوحات العائلية الكبيرة الحجم، هناك ثماني لوحات بقياسات أصغر تظهر فيها شجرة موحدة تقريباً، لكن كل واحدة منها تحظى بتعويذة شعبية على شكل «كف الحسد» أو «مار جرجس» أو «ملاك بأجنحة». أحياناً، تُبرز اللوحة مذاقات شمولية وشعبية لموضوعة السلالة العائلية، بينما تفسح لوحات أخرى المجال لجزئيات ومشهديات أصغر، كما هي الحال حين نرى أماً وابنة في لوحة «تسوق»، وفتاة تتأرجح بحبل مربوط إلى شجرة العائلة في لوحة «أرجوحة». المذاق اليومي والواقعي لهذه الجزئيات يكتسب معنى أعمق في لوحة «TV Time»، حيث نرى عائلة متحلقة حول شاشة تعرض مشهداً من يوميات الوضع السوري المتفجر.
النَّفَس الأيقوني الخاشع يتحالف مع سكينة الصورة الفوتوغرافية في اللوحات المعروضة، ولكن السطح الهادئ المؤثث بعناية فائقة لا يمنع انبعاث روائح العزلة والقلق من الوجوه والأشياء. مع ذلك، لا تكشف اللوحات كل أسرارها. لا نعرف بدقة ما الذي يكمن خلف الدقة الفوتوغرافية لأشخاص اللوحات؟ وما الذي يختبئ تحت أناقة الثياب وبريق الوجوه؟ وماذا عن الشغل المتأني على خلفية اللوحات؟ الواقعية شبه الحرفية لا تزال تصنع هوية ريم الجندي التي تقول إنها تستخدم صوراً حقيقية من ألبومها الشخصي، ومن ألبوم عائلتها، ومن صور تستخرجها من الإنترنت ومجلدات التصوير الفوتوغرافي. كأن الرسامة صنعت المنعطف الذي أشرنا إليه بالمواد الموجودة في مدونتها اللونية، لكنها منحت هذه المواد أدواراً ووظائف جديدة.

«شجرة العائلة»: حتى 31 تشرين الأول (أكتوبر» ــ «غاليري جانين ربيز» (الروشة ـ بيروت). للاستعلام: 01/868290



الإقامة في اللوحة

بدأت فكرة المعرض من تصورات عامة حول شجرة العائلة، لكن لم يكن هناك مفرّ من وصول ريم الجندي إلى شجرتها هي. الرسامة التي شغفت بفنون المنطقة لأنها تُظهر التنوع الإثني الذي ساد فيها، وأُغرمت برواية «مئة عام من العزلة» لأنها رواية سلالية، ظنت أنها تزاوج بين تقنيات الأيقونة ومذاقات الـ«بوب آرت»، ثم وجدت نفسها متورطة كالعادة في الموضوع. هكذا، ركّبت في لوحة «حفيد الإمبراطورية» صورة ثلاثية لأيقوناتها الشخصية: الجد الذي شارك في الثورة العربية، والأب الذي عاش النكبة والنكسة ومات مثل أحلامه المهزومة، والابن الذي يعشق موسيقى الروك، ويحلم بجناحين يحملانه إلى نيويورك. «حين انتهيت من رسم هذه اللوحة، عرفتُ أن المعرض صار جاهزاً»، تقول الرسامة التي لا تغادر أعمالها إلا لكي تعود للسكن فيها مجدداً.