نكاد لا نجد وصفاً دقيقاً ومناسباً لشعر الياس لحود (1942). الحَيْرة ليست متأتية من تنوع ممارسات الشاعر اللبناني الذي بدأ بمناخات رومانسية ورمزية موزونة في باكورته «على دروب الخريف»، ومزج ذلك بقضايا أكثر واقعية في ديوانه الثاني «والسدّ بنيناه»، قبل أن يهتدي إلى جملة شعرية تخصه في ديوانه الثالث «فكاهيات بلباس الميدان». الحَيرة موجودة في روحية قصيدته التي تبدو كأنها تُمضي وقتاً أكثر من اللازم في تأمّل نفسها وتغيير جلدها، وتتأخر في «تمسيك» نفسها للقارئ.
كأن الشاعر يُحيِّر القارئ بإطالة تأملاته وتكثير استراتيجياته داخل القصيدة، فيبدو كمن «يُزعج» القارئ بدل أن يدفعه إلى التلذذ بها. مقاربةٌ كهذه تسري ــ بكيفيات مختلفة ــ على مجمل تجربة الشاعر التي صدرت أخيراً في أربعة مجلدات تحت عنوان «الأعمال الشعرية» (الفارابي)، وتضمُ 12 ديواناً بالفصحى، وأربعة دواوين بالمحكية.
بدأ لحود الشعر بالفرنسية أولاً، ثم كتب شعراً عمودياً بالعربية وهو في العاشرة. في تلك السن المبكرة، كتب: «تطلُّ على حرج الصنوبر بلدتي/ وترفعُ في وجه النسيم سدودا/ وتُنكر أن تُملي عليكَ حدودها/ فتأخذُ من قاصي السماء حدوداً». كانت النبرة المتأملة تعلن عن نفسها بوضوح، وتجد للشاعر مساحة خاصة إلى جوار أسماء أخرى داخل ما سيُعرف لاحقاً بـ«شعراء الجنوب». تسميةٌ جمعت شعراءها بالهوية الواحدة، وفرّقتهم بالأساليب التي كتبوا بها هذه الهوية. بمفعولٍ رجعي، يرى صاحب «شمس لبقية السهرة»، أن التسمية حجّمت الفكرة بالانتماء البديهي، بينما الجنوب «طاقةٌ لم تظهر في شعري يوماً، لكنها لم تغب عنه أيضاً». انتمى الشاعر إلى الجنوب ــ القضية والفقر والطبيعة والأساطير. تسرّبت روح المكان إلى قصائده، لكنه كتب ذلك بطرق مختلفة وصلت به إلى إنهاء إحدى قصائده بـ«أنامُ في حذائي/ كما ينامُ الناس في الجنوب».
التفعيلة الصارمة في البدايات، تخففت بمعجم الطبيعة والكلام اليومي، قبل أن تختلط بالسريالية والتهكم والمجانية اللغوية، ثم تعود إلى العزف على كل التقنيات التي سبق لها أن استُخدمت في شعره. خصوصية لحود تكمن في سيولته المعجمية ومجازفاته بالقصيدة إلى حدود النكتة، وفي تحديث قصيدته التي غالباً ما يترك فيها شقوقاً وشواغر لا تُريح القارئ الكسول. أحياناً نظن أن الخاتمة لم تأتِ بعد، ونحن ننهي قصيدة مثل «السروة»: «لاهٍ على وجهي خريفُ وجهكِ الجميل/ بادٍ على وجهي ربيع وجهكِ القليل/ إذا انحنيتُ من هنا/ يُسرعُ من هناك أو يطلُ من هنا/ وإن صرختُ من هناكَ/ من وراء عمري المائل مثل سروةٍ مجنونةٍ/ يميلْ»، أو تشغلنا الدهشة بمكونات القصيدة عن «معادلة» كتابتها كما في قصيدة «حب»: «الحب كما أبصره الآن:/ امرأةٌ مقفولةْ/ ورجلٌ فتح الصيفَ/ ولما وطئتْ قدماه الأرض/ تراكضَ نحو ربيع الأرض/ خريفياً جهلانْ/ الحب كما يُبصرنا الآن»، أو تباغتنا الاستعارة التي تكتمل في نهاية قصيدة «صنوبرة»: «ما همّ لو دفعني حبيبي للماء/ ما همّ لو دفعني النهر إلى حبيبي/ وكان بيننا عشبٌ وبعض الوقت والحصى/ وكان بيننا ارتعاش هذه الصنوبرة». أحياناً تنتهي قصيدة فصيحة بقفلة محكية: «الكون في حديقتي بابان أزرقانْ/ بابٌ إذا فتحتَهُ/ أقفلتَ ألف ساحةٍ/ وألف مهرجان/ والآخر الـ على فمي حصان/ مزمجرٌ/ عليه شُدَّ فارسٌ من «كان يا ما كان»». على أي حال، العامية ليست ممارسةً عابرة لدى صاحب «دواوين عشاق»، حيث يمكن الحديث عن مساهمة حقيقية في حداثة محكية لا تقل أهمية عن حداثة الفصحى في الشعر اللبناني. اللافت أنّ المجانية (ومعها الفكاهة والسريالية) تنتقل بكامل عدتها من شعره الفصيح إلى قصائده المكتوبة بالمحكية، فلا نميز مجدداً بين سطور القصيدة وبين خاتمتها: «شو هالدّني الشقرا/ مُهره/ كِبرت/ عمرا ألف ذكرى/ خَضرا ونَسْياني/ كبّوتها الأسود بلخْزاني/ عحصانها وصلتْ/ فِسطانها غْنَاني/ أحمرْ مِتل فسطانها التاني»، بينما تتسلل السخرية إلى قصائد أخرى، كما في «عنتر» التي تنتهي بـ«وبلاد صحرا من ورق أسود غطس/ عبيكتبوا الغربان فوقا بمسخره/ وبيلعبوا بشفافهن سيف وترسْ/ وما في حدا قدامهن غير الهوا/ وتمثال لعنتر عَبِس/ بالعْ هوا/ لاحسْ هوا/ ماكِلْ هوا مكتّر/ ولابِدْ بالشمسْ/ منقّط على تيابو دبسْ».
كأن الشاعر يكتب بالمزاج نفسه والمعجم ذاته. «اللغة الصلبة عندي منحدرة من مجموعة محكيات»، يقول صاحب «مراثي بازوليني» الذي أنجز شعره من أقصى الوزن إلى أقصى النثر، ودسّ في طياته ممارساتٍ وحساسياتٍ أغنت قصيدته، وصنعت له اسماً على حدة في خريطة الشعر اللبناني والعربي.



يحيي الياس لحود أمسية عند الخامسة من مساء اليوم في «منتدى صور الثقافي» ويتخللها شهادتان للشاعرين جورج غنيمة، وعلي سلمان.