الآن صار بوسعنا أن نقولها بثقة. هشام جابر ربح رهانه المديني. نقولها من دون تردّد، لا «تشجيعاً» لواحد من الممثلين والمؤلّفين اللافتين بين أبناء جيله في المسرح اللبناني، وهو يخوض مغامرة جديدة من نوعها في المدينة. بل لأن التجربة وصلت الآن إلى نقطة التوازن في المسرح الصغير التابع لسينما «السارولا» التي صارت «مسرح المدينة» في شارع الحمراء، بسبب تشبّث سيّدة من حرّاس الزمن الجميل اسمها نضال الأشقر.
المغامرة اكتملت أخيراً، وكانت تبدو لنا ـــ في المحطتين السابقتين ـــ ملأى بالوعود، والنيات الطيّبة، والعناصر الممتعة، والأفكار الجيّدة، والمواهب اللافتة التي لم تذب كليّاً في قالب واحد كي يبلغ الاستعراض تمامه. كان لا بد من الانتظار إذاً، والرهان على صنّاع الفرجة ومشروعهم. ثم جاء العدد الثالث من المجلّة الاستعراضيّة، لتكتمل معه المعادلة السحريّة، في كاباريه هشام جابر ورفاقه الذي يحمل اسم «مترو المدينة». «عالم التفنيص» استعراض ترفيهي، بالمعنى الأرقى للاستعراض وللترفيه، يعيد الاعتبار إلى تقليد الكاباريه العزيز على قلب هشام ورفاقه. نذهب إلى الكاباريه من أجل التسلية والمتعة، وكلاهما لا يتنافى مع النقد والتفكير والإبداع وتمجيد الذوق والتراث الراقي. ننبش أغنيات سعد عبد الوهاب (١٩٢٦ ـــ ٢٠٠٤، «الدنيا ريشة فْ هوا»)، نعيد الاعتبار إلى Eartha Kitt (١٩٢٧ــــ ٢٠٠٨) المغنيّة الجازي السوداء والممثلة التي جعلها أورسون ويلز هيلانته الطرواديّة، ونسمع هشام جابر يغنّي من تأليفه «وظوظ الموتو»: «وظّا يلّا وظّا/ لطّش ع الستّات/ الـ vespa يلّا طظّا/ هيك بيحبّوا البنات».
هذا الـ«كاباريه شو» كما يسمّيه أصحابه، يقدّم ليل كل جمعة (ألغي مساء أمس بسبب الأحداث) بمشاركة مجموعة من الفنّانين الشباب: رقصاً وغناءً وعزفاً وتمثيلاً و…. سحراً أيضاً. لقد أخرج لنا هشام جابر ـــ عفواً: روبيرتو قبرصلي، عريف الحفلة ـــ وريث شوشو وساشا كوهين ـــ أخرج لنا هذه المرّة من قبّعته ساحراً (اسمه جو غاوي!) يقوم بأدواره وخدعه البصريّة بين أغنيتين لشادية (إن راح منّك يا عيني) وإديت بياف (La vie en rose). نحن في الخمسينيات بين القاهرة وباريس. نحن في بيروت 2012. العرض يدور حول الوهم الذي يركض وراءه اللبنانيّون ليل نهار، حتّى سخّروا له عقولهم وقيمهم وقضاياهم… وهم المال والربح السهل والسريع، والاقتصاد الطفيلي الذي يسحقنا في معجنه. روبيرتو/ هشام على المسرح دوّامة من الحيويّة، وعلاقة كوميديّة خاصة بالجمهور، يحكي ويمثّل ويطلق القفشات واللطشات واللعب على الكلام، ويتفاعل مع ما ومن حوله. اسكتشاته هي الخيط الجامع بين اللوحات الغنائيّة والراقصة، كما هي القاعدة في هذا النوع من الاستعراض. المؤثرات البصريّة كثيرة أيضاً من تقنيّات العرض المختلفة، إلى الديكور الباروك إيّاه، والراقصتين اللتين تلعبان دور الكورس، والفرقة الأساسيّة التي يقوم عليها نبض الاستعراض: بيانو مارك إرنست، بايس فيصل عيتاني، ناهيك بالإيقاعات (غير شكل) لـ إليانا عواض.
يصعب نقل الأجواء التي تتغذّى من رد فعل الجمهور وتفاعله كل سهرة… لكن ينبغي أن نتوقّف عند الأداء الغنائي لكلّ من ياسمينا فايد وستيفاني سوتيري، وعند أسلوب رندا مخول المتوتّر والمتكسّر في الرقص، وأخيراً عند الفنان الشاب الذي يشكّل اكتشاف الاستعراض: فراس عنداري يجسّد شخصيّة سيّد مكّاوي، ويلبس نظارتيه، ويؤدّي أغنياته (أوقات بتحلوّ، يا حلاوة الدنيا) ويرافقها على العود. وأحياناً يستخرج روبيرتو قبرصلي من جيب سترته الورقة الرابحة. الورقة الرابحة هي استعراض «عالم التفنيص» (الأونطة، للقرّاء غير اللبنانيين). يعبّر عنه جيّداً الشغل الغرافيكي للملصق الذي يحمل توقيع حاتم إمام. بطاقة الدخول الحمراء إلى «مترو المدينة» بدت في يدنا أشبه باقتباس (حرّ!) للدولار الأميركي، بعدما تنازل الرئيس جورج واشنطن عن مكانه لـ…. وليم شكسبير. لا تدَعوا هذا العمل يفوتكم.



«عالم التفنيص»: 9:30 مساء كل جمعة ـــ «مترو المدينة» (الحمرا/ بيروت) ــ للاستعلام: 76/309363