تحكي لنا الشابة الايزيدية «سارة» (اسم مستعار) بنت الــ27 ربيعاً في هذا الكتاب/الشهادة «سارة: كانوا يعاملوننا كالبهائم» (دار فلاماريون) وبكل شجاعة كيف كانت تتحضر وتحضر لزفافها في قرية كوشو في منطقة سنجار، غير بعيد عن مدينة الموصل، وكيف انهار كل شيء في تلك الليلة المشؤومة من ليالي شهر آب (أغسطس) 2014 حين اقتحم ملثمون وملتحفون بالسواد ومدججون بالسلاح قريتها عند الثالثة صباحاً للانتقام من أهل القرية الذين هم في اعتقاد هؤلاء الدمويين من عبدة الشيطان، هم الذين يعيشون وفق التقاليد الايزيدية يعظمون النار والهواء، وعلى وجه الخصوص الشمس «رمز النور الإلهي الذي ينير كل شيء» كما تقول سارة.
بعدما أجهزوا على كل رجال القرية، أخذ الغزاة البرابرة النساء والأطفال كغنائم حرب، مستعملين من العنف والانكشارية ما يندى له الجبين. ثم نزعوا الفتيات بقسوة من أمهاتهم من أجل بيعهن كمستعبدات جنسيات للمقاتلين المنضوين تحت لواء تنظيم الدولة الإسلامية أو غيرهم من ذوي القلوب غير الرحيمة. في غضون ساعات، فقدت سارة أباها وثلاثة من إخوتها. تم حجزها وأخواتها في أماكن كثيرة حيث كان مقاتلو «داعش» يأتون لاختيار النساء لاغتصابهن. قضت سارة أسابيع طويلة مسجونة، لكنها تمكنت من الفرار بفضل إرادتها القوية وحبها للحرية ورفضها للظلم والإهانة. وكانت رحلة أخطار مذهلة أوصلتها إلى بر الأمان في قرية في كردستان، على الحدود السورية التركية. وهي اليوم تعيش الأمرين بسبب عدم حصولها منذ تلك الليلة المرعبة عن أي خبر يتعلق بأفراد عائلتها الـ 12 الذين اختطفهم الدواعش. منذ ذلك اليوم وهي تعيش مسكونة بالكوابيس. "حينما يرى الإنسان تلك الفظاعة بأم عينيه لا تتوقف الدموع عن الانهمار" تقول سارة.
شهادتها مؤثرة جداً، وما زاد في قوة سردها شهادات أيزيديات أخريات وقعن معها في قبضة الإرهاب الإسلاموي. الكتاب إدانة وفضح لوحشية جنود تنظيم «داعش» كما يلاحظ القارئ بنفسه من خلال المقاطع التي اخترنا ترجمتها إلى اللغة العربية: «نحن نراقب ما يجري في الخارج خلف النافذة، شاهدنا للمرة الأولى ستة رجال من جنود داعش يدخلون القرية على متن شاحنة عسكرية صغيرة وسيارة جييب. كان أحدهم ملثماً يلوّح بعلم أسود بطريقة المنتصرين العنجهية. كان يرتدي سروالاً عريضاً وقميصاً قصيراً يصل إلى ركبتيه. لقد بدا لنا لباسه تافهاً مثيراً للسخرية، إذ على عكس ذلك، يرتدي العرب في منطقتنا قمصاناً طويلة تغطي أقدامهم. يبدو أن رجال داعش يلبسون الميني جيب!، تعلق أختي وهي تضحك خلسة، ابتسمنا ولكن كان الرعب يقبض أنفاسنا.
وفي اليوم الموالي، طلب رجال داعش من مسؤول القرية إن يبلغ كل السكان بأنهم ملزمون باعتناق الإسلام فوراً. حاول المسكين أن يقنعهم مذعوراً بأن ذلك سيكون صعباً، إذ هناك أشخاص مسنون والمعتقدات الأيزيدية راسخة في أعماق ضمائرهم و ا يمكن مطالبتهم بأمر كهذا! نزل رد الدواعش كالصاعقة: أمامكم مدة ثلاثة أيام لتعتنقوا الإسلام وإن رفضتم الانصياع، فسيكون الموت مصيركم المحتوم. لم نكف عن البكاء والنحيب ، لم يترك لنا هؤلاء أي خيار، فهم يسيطرون على كل منطقة سنجار. لم تكف أمي عن دفع أبي لإيجاد منفذ ما، الفرار قبل فوات الأوان. ولكن كان الوالد رافضاً لفكرة الهروب تماماً: لا يمكننا التخلي عن ناس القرية، سنشاركهم مصيرهم مهما كان الثمن. مرت أيام المهلة الثلاثة كلمح البصر ولا أحد يرغب في اعتناق الإسلام كما يأمر الدواعش، وأصبح اليأس مسيطراً على عقول وقلوب الجميع. لكن في آخر لحظة، توصل مسؤول القرية إلى اتفاق مع إرهابيي الدولة الإسلامية نستطيع بموجبه مغادرة القرية سالمين بشرط أن نترك كل ما نملك من ذهب إلى الدواعش: يجب استدعاء كل القرويين، ينبغي لهم أن يتوجهوا إلى المدرسة ومعهم كل ما يملكون من مجوهرات وأشياء ثمينة، وبطاقات الهوية، سنتحقق من هوياتهم ثم نسمح لهم بالاتجاه نحو الجبل. قل لهم أن يأتوا على متن سياراتهم. هكذا أمر أبو فارق، المسؤول المحلي لداعش مؤكداً لمسؤول قريتنا أن الخليفة أبو بكر البغدادي قد وافق شخصياً على هذا الأمر. غادرنا البيت على متن السيارة كما طُلب منا. كانت الساعة حوالي الواحدة زوالاً والقرية الآن تعج بإرهابيين يزرعون الرعب، جاؤوا من الموصل مدججين بأسلحة أميركية ثقيلة متطورة تم أخذها من الجيش العراقي. وفي طرقات قريتنا الصغيرة تتحرك سيارات عسكرية ضخمة. في هذا الجو المخيف، وصلنا إلى المدرسة الابتدائية الجديدة المشار إليها وقلوبنا مملوءة رعباً. كان كل سكان القرية هنا في المدرسة. حوالي 1500 شخص في ذعر أمام نظرات رجال داعش العراقيين وبعض الأجانب الذين يراقبون المكان.
على طاولة وضعوا أكياس ثلاث: الأول مخصص للمجوهرات، والثاني للهواتف المحمولة وآخر للأوراق النقدية. لا يتعدى سن القائد أبو فارق الخامسة والثلاثين، نحيل الجسد، داكن البشرة، تغطي وجهه لحية متوسطة الطول وعلى رأسه عمامة. يأمر بصوت عال: ينبغي عليكم أن تقدموا كل مجوهراتكم! إذا رأينا قرطاً على أذن رضيع، سنقطع له أذنه! وإذا رأينا خاتماً في اصبع امرأة لم يترك هنا، سنقطع إصبعها!
بطبيعة الحال، فكما هو معروف عن هؤلاء البرابرة لم يوفوا بوعدهم، لقد قتلوا كل رجال القرية واحتجزوا النساء لأغراض خسيسة:
بدأ أحد الإرهابيين يصرخ: ينبغي على النساء المتزوجات واللواتي معهن أولاد الصعود إلى الطابق الأول، سنقدم لهن ما يأكلن مع أولادهن. إذا سألك أحد هؤلاء الأشرار إن كنت أمك فقل نعم هي ماما، هكذا همست في أذن ابن أختي أنور، وأكدت له أن ذلك مهم. التحقت بشيرين وريبن لنصعد الأدراج نحو الطابق الثاني، ولكن أوقفني الإرهابي ورماني بنظرة يتطاير منها الشر والخبث وأمسكني من الكتف سائلا بنبرة مهددة: هل أنت متزوجة؟ نعم وهذا ابني أنور، أجبت. تفحصني بعين حاقدة وسأل أنور: هل هي أمك؟ أشار الطفل نعم برأسه. وفي الطابق الأول، جلست مع شيرين وشامل وسينام وزاييل في ركن من أركان قاعة القسم المكتظة. قدم الحراس بعض بسكويت وعصيراً للأطفال ولكن لا وجود لقطرة ماء هنا لحد الآن.
عند غروب الشمس، سمعنا فجأة نحيب امرأة يأتي من البهو. وفي نفس الوقت الذي وقفت فيه لأعرف ما يجري، صرخت امرأة: إنهم يأخذون الفتيات الشابات! ساد الفزع والذعر في الطابق السفلي، ومن أعلى الدرج كنت أشاهد الحراس ينزعون الفتيات من بين أذرع أمهاتهن اللواتي كن يصرخن ويحاولن المقاومة أمام تهديد الإرهابيين لهن بالسلاح. أخذوا أختي ياسمين وأختي الصغيرة سييف. وكانوا يجرون الفتيات من شعورهن خارج القاعة. تعرفت على مريم التي رأتني وأشارت بيدها نحوي إشارة وداع، مريم لم يكن يتعدى عمرها الثالثة عشرة وكانت تبدو أصغر من عمرها الحقيقي بكثير.
جاء حراس جدد هذا المساء خلفاً للآخرين، إنهم القذارة بعينها. حينما يعودون من المرحاض، يغسلون أيديهم في إناء الماء الذي أحضروا أخيراً لنشرب منه. لم يكن لنا خيار آخر غير الشرب من ذلك الماء. وكلما فرغ الإناء ونال منا العطش، كان الحراس يشربون عصير الفواكه ببطء أمام الأطفال لإسالة لعابهم ويرمون بعلب العصير الفارغة على الأرض لتهييج أعصابهم. ورغم بكاء الأطفال وعطشهم لا يبالي هؤلاء الوحوش إذ لا رحمة في قلوبهم.
غادر الحراس المكان بعد منتصف الليل وأعلنوا أنهم سيغلقون أبواب المدرسة بإحكام حتى الساعة السادسة صباحاً. وفي الغد بعد توزيع الماء علينا رأساً، سقطنا في حالة من الخمول غير عادية، كانت كل النساء يتثاءبن كأنهن لم ينمن منذ مدة! همست شيرين: لا بد أن يكونوا قد وضعوا في الماء حبوباً منومة. أشعر بدوار حتى الأطفال لا يبكون، إنه لأمر غريب! حتما معك حق. لكن ليس لنا أي خيار، فلا بد أن نشرب من الماء الموزع علينا.
في الصبيحة قال لي الحارس الشاب الذي ساعدني قبلئذ وبصوت خافت: اليوم سيعود الأمير إلى هنا. في العادة كنت وأخواتي نهتم بهندامنا ومظهرنا وبمجرد سماع الخبر فعلنا كل ما نستطيع ليكون مظهرنا قبيحاً ووجوهنا دميمة. لبسنا أثواباً قديمة كنا أحضرناها لنصعد بها إلى الجبل كما قالوا لنا كذباً. كل هذا لصرف نظر الأمير الذي يأتي ليختار من بيننا فتاة أو اثنتين ليتزوجهما على طريقة داعش. طلبنا حتى من امرأة تمكنت من الخروج لبعض دقائق من المدرسة/السجن لتحضر معها ما وجدته من أشياء يمكن أن نسود بها وجوهنا، وعادت بحفنة من الرماد وجدتها في فرن خبر تقليدي مهمل، وضعنا الرماد الأسود على وجوهنا لنبدو مثيرات للاشمئزاز، وقد ثقبت خدي بإبرة وتركت قطرات دم على وجهي. وصل أمير داعش وسط حراسه وراح ينتقل من قاعة إلى أخرى ليختار فريسة أو فريستين. طلب منا أن ننزع أحجبتنا، وكان ينتزعها بعنف بمجرد أن تتأخر واحدة ولو لحظة في طاعة أمره. كان يحدّق فينا الواحدة تلو الأخرى. ومن حظنا اليوم، تلقى في اللحظة الحاسمة مكالمة هاتفية تبدو مهمة ومستعجلة، وهكذا غادر الوحش القاعة بسرعة و لم يصطد من قاعتنا هذه المرة.