القدس | بعد سنة ونصف من البحث عن أعمال محتملة لجبرا ابراهيم جبرا (١٩٢٠ــــ ١٩٩٤)، في كل بيت من بيوته السبعة التي سكنها الشاعر والناقد والمترجم الراحل في بيت لحم، وقد شمل البحث كل حارة مشى في شوارعها، وكل زاوية استراح فيها، عثر مقتني الأعمال الشاب جورج ميشيل الأعمى في مخزن قديم داخل أحد بيوت بيت لحم على 12 عملاً فنياً يعود تاريخها إلى أربعينيات القرن الماضي، وتحديداً بين عامي ١٩٤٦- ١٩٤٨. إنّها أعمال كانت قد وضعت في ذاك المخزن في انتظار عودة جبرا كي يحملها ويعود بها إلى منزله الذي تركه في عام النكبة. الأعمال المكتشفة لم تكن على الحال التي تُركت فيها طبعاً، بل كانت ألوانها الزيتية مغطاةً بغبار تراكم لأكثر من ٦٤ عاماً، هي عمر النكبة واللجوء. ولذلك، فقد أُخضعت المجموعة لعمليات تنظيف وإصلاح، وأُرسلت 9 منها إلى الخارج لترميمها كي تكون جاهزة للمعرض الخاص الذي ستحتضنه مدينة بيت لحم في شهر كانون الثاني (يناير) 2013.
الأعمال الـ 12 تنوعت بين الرسم على الزجاج والخشب والخيش. أنواع الخامات المستخدمة في الرسم تعكس مدى الفقر والبؤس اللذين عانى منهما جبرا قبل انتقاله إلى إنكلترا ومنها إلى العراق، وتعكس أيضاً القلق الذي عاشه الفنان الشاب وقتها في البحث عن أسلوب وتقنيات ومنهجية مستقبلية، قادته لاحقاً لكي يكون ناقداً فنياً متميزاً قادراً على المشاركة في صناعة مرحلة فنية مهمة.
من خلال عملية البحث والمقارنة بين مذكرات جبرا إبراهيم جبرا في كتابه «شارع الأميرات» (١٩٩٩)، وبين الأعمال المكتشفة، توصّلت رئيسة قسم البحث والتدريب في «مركز حفظ التراث الثقافي» المهندسة ندى الأطرش إلى تحديد علاقة بين حكاية رواها في الكتاب، وإحدى اللوحات المكتشفة، وهي عن حلمٍ متكرر يرى نفسه فيه واقفاً بين امراتين، إحداهما عارية والأخرى مرتدية ثيابها، ويقوم باحتضانهما معاً، بينما وجوه مختلفة وحائرة تطل عليه وتراقبه…
هكذا، فإن القصة التي ذكرها جبرا في الكتاب هي ترجمة لعمل زيتي أُنجز قبل ذلك بنصف قرن، ويكشف أهمية تلك الفترة المبكرة من حياة صاحب «السفينة»، وأهمية ولادته ونشأته في فلسطين التي ستحضر لاحقاً بطرق مختلفة في نتاجه الأدبي والنقدي.
العمل يحمل أبعاداً فنية ونفسية، ويقدم شكلاً بصرياً مختلفاً قياساً بالزمن الذي رُسم فيه، ونجد فيه إشارات إلى الكتابة التي ستشغل حياة جبرا إلى جانب الفن والنقد، وهو ما يبدو بوضوح في الحلم المذكور في كتابه.
من خلال هذه المجموعة من الأعمال المبكرة، نرى تأثر جبرا بالأسلوب الوحشي، ويقترب في بعضها من تكوينات وألوان رائد المدرسة الوحشية هنري ماتيس. في موازاة ذلك، تعدّ هذه الأعمال نموذجاً مهماً من نماذج التطور الفني في فلسطين، في تلك الفترة التي اتسمت أغلب نتاجاتها بالكلاسيكية أو تأثرها بالأعمال الاستشراقية التي أنجزها فنانون أوروبيون. كذلك تختلف مواضيعه تماماً عن الموضوعات السائدة. هكذا، رسم جبرا مشهديات يومية من الحياة الفلسطينية، إلى جانب محاولاته في رسم مواضيع تتعلق بتجربته الشخصية، مستخدماً تقنيات مختلفة تعكس مدى القلق والاستبصار الذي اتسم به الراحل الكبير. موضوع المرأة كان حاضراً بقوة، وقد استطاع أن يوظف القيمة البشرية كأساس لعمله الفني الذي ربط فيه جبرا بين المكان والناس، وتجلى ذلك في رسم التكوينات البشرية المحيطة بصورته الشخصية، واستخدامه لضربات فرشاة توحي بالجرأة والقوة في إنجاز الخطوط التعبيرية والوحشية التي ميزت أعماله في تلك المرحلة.
لم تدخل أعمال جبرا في تاريخ التشكيل الفلسطيني كتجربة مميزة ومؤثرة، فقد عُرف وعومل ككاتب وناقد أكثر من كونه فناناً. كذلك فإنّ فقدان العديد من أعماله وتشتت تجربته قللا من الاهتمام به. جبرا في ذاكرتنا هو الشاعر والروائي، والناقد الذي أدى دوراً ريادياً في المحترف التشكيلي العراقي، وهو مترجم أعمال شكسبير. أما لوحاته، فتبدو مثل ممارسة جانبية في مسيرته الخصبة والمتعددة. اللوحات المكتشفة اليوم تعيد إلى الوجهة هوية جبرا الفلسطينية، حيث ولد مع ثمانية من أشقائه في بيت لحم، ثم انتقل إلى القدس، ودرس في بريطانيا، ثم استقر في العراق، حيث صارت كتاباته وترجماته جزءاً من حداثة الأدب العراقي والعربي.