أكثر ما يفتقده المشهد السوري هذه الأيام، غياب مثقفيه الكبار. عبارة واحدة قالها أدونيس، في بداية الانتفاضة السورية، وضعته في مرمى النيران الصديقة، والنيران المعادية. التاء المربوطة التي طالب بها لتبرير الحراك (جامع/ جامعة) قادته إلى التهلكة. نزيه أبو عفش، وفراس السوّاح أيضاً، لم يسلما من تأثير القنابل الصوتية الافتراضية، فآثرا العزلة والصمت. هكذا احتل المشهدَ «افتراضياً» شباب مجهولون، يخوّنون من يشاؤون، ويمنحون أنواط الشجاعة لمن يشاؤون.
رجموا سعدي يوسف من دون ندم، ومسحوا بممحاة خشنة تاريخ زياد الرحباني، وسخروا من مواقف ميشيل كيلو وآخرين. أصنام من التمر تملأ ساحات الموقع الأزرق لأشخاص مجهولين، وبروفايلات لكومبارس الأمس على هيئة جان دارك، وغيفارا، بنسخة سورية منقّحة، لكنها، في الواقع تفتقر إلى قوانين حماية الملكية الفكرية. بطل اليوم، يلغيه بطل الغد، على غرار أفلام العرض المتواصل في سينمات الشوارع الخلفيّة. مثقفون عرب عاطلون من الرأي في شؤون بلادهم، وجدوا فرصتهم المجانيّة للتضامن مع الحراك السوري «لفظياً»، لكنهم، لا يجرؤون في بلادهم على هجاء سائق في حاشية أمير، أو ملك، أو زعيم طائفة. «مثقف الداخل» الذي يعيش يومياً مشهد الدم عن كثب، متهم بالتخاذل والتواطؤ والخوف، فيما أحفاد عنترة في باريس، والدوحة، والقاهرة، وعواصم أخرى، يوزعوّن صكوك الغفران على أبطال وهميين. على الأرجح، فإنّ الشخصية السورية في لحظتها الراهنة، تحتاج إلى علاج طويل في مصحّ عقليّ لتتخلّص من آلامها وأمراضها الطارئة، وقبل ذلك، من الضغينة، وحسّ الثأر، وإلا فسيصعب الفرز بين خطاب النخب، وخطاب الدهماء (كان المسرحي الألماني بيتر فايس قد عالج في مسرحيته «كيف تخلّص السيد موكنبوت من آلامه» شخصية الفرد المقهور، لكنه ما أن يثور على عبوديته حتى يفقد توازنه). وسيلتفت سعد الله ونوس إلى معالجة هذه الفكرة تحت عنوان «رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة».

■ ■ ■


قبل غيابه بقليل، أهدانا ممدوح عدوان كتاباً استثنائياً في توصيف أحوال الكائن المقموع وتحولاته بعنوان «حيونة الإنسان». الكتاب الذي يلقى رواجاً محليّاً هذه الأيام، أشبه بمعجم لمراتب العنف، وورطة الإنسان الأعزل في مجتمع مقموع، وصولاً إلى «صناعة الوحش». هكذا يستنفر صاحب «أعدائي» في تجوال طليق، نصوصاً رصدت صعود الطغيان إلى درجة «تشويه الإنسان وتزويره»، ويجد في صورة «العسكري الأسود»، التي رسمها يوسف إدريس، مثالاً حيوياً عن تبادل الأدوار بين «القامع والمقموع»، أو بين الجلاد والضحية، والابتكارات المذهلة في الطاعة والإخضاع والترويض، وكيفية تحوّل الذئب إلى كلب حراسة (ربما علينا أن نستعيد هنا قصة زكريا تامر «النمور في اليوم العاشر») من موقعٍ مضاد. ويفكك ممدوح عدوان شخصية «المتنمّر» الذي كان شخصاً مذعوراً، لكن بفعل الصلاحيات الممنوحة له من السلطة يتحوّل إلى وحش، أو «متسلبط»، أو «بلطجي» يفرض إرهابه الشخصي على الآخرين بوصفه «جلاداً متجوّلاً»، بإمكانه اتهامك «بالخيانة والعمالة، أو بالكفر والإلحاد». في «مجتمع المقموعين»، ينشأ «غيتو» يقوم على «ازدواجية النفي أو الإلغاء للآخر نفسيّاً» بقصد ترميم ذاته المشوّهة لمواجهة هزيمته الشخصيّة، ولو برّر سلوكياته بشعارات برّاقة لإخفاء «الكراهية العمياء للفئات الأخرى».

■ ■ ■


إقصاء المثقف عن المشهد العمومي السوري، ليس جديداً، حتى إنّ الحلّاق وصبي المقهى وقاطع الطريق، قد تفوقوا عليه جميعاً في «باب الحارة»، وإذا بهذه الثقافة تهيمن على ما عداها، وتجد من يعاضدها في الواقع، بتقسيم الحصص بين «حارة الشرفاء» و«حارة الأشرار». مطلوب إذاً، من «المثقف الصامت» أن يلتحق بدورة تدريبية عاجلة على استعمال سلاح «الدوشكا»، وحفر الخنادق لدفن ضحاياه، وفي المقابل أن يكتب نصّه الثوري (الركيك؟) على عجل، كي ينجو من تهمة الخيانة على يد كومبارس السياسة الطارئين في مدجنة الثورة.
الذين يطالبون الأديب بالأفعال بدلاً من الأقوال (المكتوبة) يتجاهلون أن الكتابة المبدعة الوثيقة الارتباط بالناس هي الفعل والأفعال، وأي فعل آخر للمبدع لا قيمة حقيقية له وتبديد لجهده ووقته ومحاولة لنقله إلى أرض أخرى تشل معظم ما يملك من قدرة لا يملكها سوى المبدعين، وهي محاولة تريد للطائر أن يبارز الأفاعي.