حيفا | لا أدري ما العلاقة بين صوت فيروز ووادي الصليب في حيفا ومخيّمات اللجوء في لبنان. كلّما استمعت لفيروز، تخيّلت أهل بيت عبد اللطيف كنفاني (والده هو ابن عم جد غسان كنفاني) يشربون القهوة على إحدى شرفات بيتهم المطلة على الميناء في حيفا ويستمعون لفيروز تغنّي: «هيلا يا واسع... هيلا هيلا هيلا، مركبك راجع... هيلا هيلا هيلا، شد الشراع وسير... بلد الحبايب ما هي بعيدة، بحر وقول يا كبير... وتبقى سفريتنا سعيدة».
ليس فقط هذه الأغنية. كل أغنيات فيروز التي تحمل معاني وقصصاً تذكرني بحياة هذه العائلة. أتخيّل حديثهم عن القضايا السياسية العالقة في حيفا في حينه، ودعوتهم جارهم رئيس البلدية عبد الرحمن الحاج، وجارهم رشيد الحاج إبراهيم مدير «البنك العربي» في حيفا لشرب القهوة معهم. وربما جاءت عائلة غسان من عكا مرة لزيارتهم، وانشغلت الأمهات بنوعية أقمشة الستائر الجديدة التي كانت معلّقة على شبابيك الشرفة، وانشغل الآباء بلعبة شطرنج وبالحديث عن الحركة العمالية في المدينة، وعن أهمية تشجيع الاستثمار العربي ليس فقط باستحضار عمّال من مصر والأردن والعراق ولبنان، وإنما أيضاً بزيادة في بناء المصانع والشركات، وعن أهمية مصفاة النفط العراقية ومنافستها لشركة Shell البريطانية، وأهمية التنبّه لموضوع ازدياد بيع الأراضي للأجانب (إنكليز ويهود)، وربما انطلقت الموسيقى من الراديو الكبير الذي يتخذ مكاناً مرموقاً في الصالة، فيشدو محمد عبد الوهاب بمقام اللامي الريفي العراقي الجميل: «ياللي زرعتوا البرتقال... ياللا اجمعوه. آن الأوان ياللا اجمعوه... آن الأوان ياللا ياللا. احنا زرعناه واحنا انتهينا. وآدي احنا بعد التعب جنينا. دا بين أيدينا هلوا علينا. يا رب كتر البرتقال».

ربما تنبهت الأم للأغنية، فناولت زوجة أخيها الأقمشة التي اشترتها حديثاً من سوق الشوام، لتحيك «جهاز» ابنتها، وقامت تنادي على ابنها البكر قائلة: «انزل عالشط جبلنا سمك، واحكيلو لعمك أبو خليل الصياد يشكّل السمكات، خلّي يحطّلك سلطان إبراهيم وبوري وشوية سمك مشط، وامرق على ساحة الحناطير جيبلنا شوية بردقان طازة».
ربما خرج الابن من البيت يتجه شمالاً، فيمر ببيت الجيران ومن ثم ينزل الدرج الملاصق لبيتهم (أحد الأدراج التي تصل أحياء الوادي بعضها ببعض). هذا الدرج يدعى درج عجلون. هكذا سماه أهل المنطقة نسبة إلى أهل عجلون الذين عملوا في حيفا وسكنوا المكان كالكثير من العرب الوافدين إلى المدينة وأصبحوا بعد حين من أهلها. يصل آخر الدرج، وإذا بأخيه الصغير وغسان يحملان حاجياتهما استعداداً للسباحة، ويقول له «وصلني بطريقك على بركة الخياط».
وقد يكونان قد ذهبا معاً إلى ساحة الحناطير، واشتريا البرتقال الواصل لتوه من يافا، واستأجرا حنطوراً من هناك أوصلهم إلى بركة الخياط، نسبة إلى عزيز الخياط أحد الإقطاعيين في حيفا في حينه، وذهب هو لشراء الأسماك المطلوبة للغداء.

■ ■ ■


«بكير طل الحب عا حيّ اللنا. حامل معه عتوب وحكي ودمع وهنا. كنا وكانوا هالبنات مجمعين. يامّي وما بعرف ليش نقّاني أنا». عندما أستمع إلى هذا المقطع من أغنية فيروز (جايبلي سلام)، يخيّل لي أن إحدى الصبايا في ذلك البيت الكبير تعيش قصة حب جميلة. لا أنفكّ عن التفكير في تفاصيل هذا البيت وأهله وحياتهم بعد التهجير. هنالك حنين إلى حياة العز والكرامة التي لا تزال تنبض من شرفاته، هكذا أفسّر علاقتي الحميمة والقوية بهذا البيت. كلما مللت من الحياة، أجد نفسي جالسة على إحدى شرفاته المهجّرة التي تناجي البحر من أمامها، وتسأله أن يوصل السلام إلى شواطئ بيروت.

■ ■ ■


في الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، وفي صباح حيفا الباكر، خطر لي أن أذهب إلى بيت كنفاني. فقد مضى أكثر من أسبوعين على آخر زيارة لي. عندما أذهب إلى هناك، أشعر بتجدّد الخلايا في داخلي.
أوقفت سيارتي أمام بيت جارهم عبد الرحمن الحاج (أول رئيس بلدية في حيفا). سمعت صوت آلات الهدم وبعض الضجة من بيت كنفاني. تملّكني الرعب ووقفت وراء شجرة زيتون، صوّرتهم يهدّمون أجزاء من البيت، ماذا سأفعل؟ من يعنيه هذا البيت؟ بمن أتصل؟ ماذا يفعل عبد اللطيف كنفاني وأحفاده الآن في لبنان، مَن يخبرهم؟
عزمت على دخول البيت، وقررت أن أسألهم ماذا يفعلون؟ حتى لو كانوا من شركة «عميدار» (الشركة الوطنية الإسرائيلية للإسكان المسيطرة على أملاك الفلسطينيين المهجّرين). لكن قبل ذلك، رجعت إلى السيارة ووضعت هاتفي فيها. لا أدري لماذا قمت بهذا التصرف السخيف. تخيّلت نفسي وسط «طوشة» غير مجدية سألعن التاريخ في نهايتها، ويأتي أحد المتحذلقين ليقول لي: «إي هِي وقفت على بيت آل كنفاني، ما كلّ البلاد ضاعت!» ولم أبخل عليه بشتيمة من النوع الثقيل حينها.
استجمعت قواي واتجهت نحو البيت. لا أسمع صوت خطواتي من شدة صوت آلات الهدم التي كانت تحفر قلبي أيضاً. بلغتُ أحد العمال بعدما تأكّدت أنّه عربي من سيارة العدّة الواقفة عند مدخل الدار وكُتب عليها من الخلف «صلوا ع النبي». لم يرني لأنه مشغول بالهدم وسط ضجة عارمة، لوّحت بيدي أمام وجهه ليراني، فأوقف آلة «الكونغو».
سألته: «شو بتشتغلوا هون؟»
نظر إليّ نظرة استنكار، وأجاب ممتعضاً: «بنرمم البيت»
- كيف بترمموا البيت وبأمر من مين؟
- بأمر من صاحبه!
- وليش مين صاحبه؟
- «البيت إنباع، ورح يصير مكاتب محامين.
عند وصول النقاش إلى هذه النقطة الموجعة، أشار لي بإصبعه إلى المقاول. كان جالساً يشرب القهوة. قصدته منكسرة، فسألني: «شو بدك؟». لم أفلح في إيجاد إجابة سريعة، فهل أقول له فعلاً «شو بدي»، تمتمت بداخلي: «بدي تطلعوا من البيت ونعمّرو من جديد ونزبطو، ونركب لشبابيكو ستاير».
صمتّ حينها، وشعرت بأني أوشك على طرح إجابة رسمية سخيفة ـــ «مبروزة» على رأي أمي ـــ مفادها: «أنا صحافية ومهتمة بأمر البيت». بصراحة كنت أكثر من مهتمة، فآثرت السكوت للحظات. وعدت لسؤاله: «أتدري من هو صاحب هذا البيت الأصلي؟». أومأ بما يفيد أنه لا يعرف وغاص أنفه في فنجان القهوة وعيناه ترمقانني بنظرة استغراب، فأردفت بثقة: «هذا البيت لعبد اللطيف كنفاني، علّ للاسم وقعاً عليه، إلا أنه ردّ بوقاحة مفرطة: «كان! قبل شهر هدّينا بيت زيّو تحت بالحارة التحتا»، فألقيت آخر أسئلتي بمرارة: «بقدر أصوِّر البيت؟» فهزّ رأسه موافقاً.

■ ■ ■


صوّرت آخر ملامح حقيقية للبيت، قبل أن تطفأ روحه وقبل أن يصبح مكتباً للمحامين كما المبنى المجاور له، ذاك الذي كان مبنى الحركة الشاذلية في حيفا، ويشترك بيت عبد الرحمن الحاج (رئيس البلدية) مع البيوت بالمصير نفسه، ستصبح هذه البيوت أماكن موحشة مهجورة مملوءة بمحامين يهود اختصاصهم قضايا مصادرة الأراضي في سخنين أو أمّ الفحم ربما، ومن هنا، من بيت كنفاني!
حين تحدّثت إلى المرأة اليهودية التي استولت عائلتها على البيت، سألتها إن كانت قد احتفظت بشيء من أثاث البيت أو ممتلكات العائلة، فقالت إنّ لديها «مطحنة القهوة». وكي تمعن في إيلامي، قالت إن جدّها أخبرها بأنهم حين استولوا على البيت كانت القهوة في غلّايتها ما زالت ساخنة!
كنت أصوّر وأصوّر، عسى الصور تلتقط الأنفاس الأخيرة للبيت، وكان تسارع أنفاسي القصيرة طاغياً، أتنقّل بين الغرف والطوابق، أدخل المطبخ فيخيّل لي بأنّ الأم تنادي على الجميع، معلنة أنّ طعام الغداء بات جاهزاً، ويدور حول المائدة حديث عادي جميل. أخرج إلى الصالة لأرى ربّ العائلة مرتخياً على الأريكة يدخن الغليون، يقرأ صحيفة «الكرمل» بنهم بعدما انتهى من قراءة صحيفة «الدفاع» و«فلسطين» وصحيفة «الجامعة الإسلامية». تتسرب من إحدى الغرف نغمات عربية خالصة، فألاحق الصوت لأجد فتاة تناغي العود.
أحس بالتفاصيل تتسرب إليّ، فتتلاحق أنفاسي محاولةً جمع أي شيء باق. أدخل غرفة أخرى لأرى صبيّاً يافعاً مستلقياً على ظهره وعيناه تلاحقان صفحات كتاب مصفرّة كتب على غلافه «حب في موسم البرتقال». أخرج إلى الشرفة أتأمل الميناء، وأملأ الصدر من هواء ألف المنزل وشرفته. أتذكر كلمات كتبها عبد اللطيف كنفاني من على هذه الشرفة: «أذكر كيف كنا نقف على شرفة بيتنا نراقب مؤذن جامع الجرينة يلوّح بالعلم من أعلى المئذنة المضاءة إيذاناً بموعد الإفطار، فنسارع إلى وضع أصابعنا على آذاننا اتقاءً للدويّ، وما هي إلا لحظة حتى تسمع حيفا كلها صدى المدفع». التفت لأكمّل المشهد برؤية جامع «الجرينة»، فلم أر إلا عمارة ضخمة كئيبة حجبت كل شيء.
أنزلُ سلّماً خشبياً بشعاً بناه العمّال ليسهّلوا الجريمة، وأنا الآن في الطابق الثاني، طابق الجدّة ولا سلالم للنزول إلى الطابق الأول. لهذا الطابق مدخله الخاص، إلا أنّ بابه موصد، فقفزت من شباك إحدى الغرف بجانب المدخل المطلّ على شارع البرج، وأخذت بإكمال المشهد من خيال كان يوماً واقعاً، فقد ملأت أصص الزهور المكان، وغطت ياسمينة شامية جزءاً من الجدار. يبدو أنّ الطابق الأول أفرد لاستقبال الضيوف. يجتمع فيه الرجال يتناقشون في الشأن السياسي وما آلت إليه أوضاع البلد في زمن الانتداب المرير. وفي أيام أخرى، تلتقي النساء اللواتي يتبادلن الزيارات بما يعرف بالاستقبال، فتدور كؤوس «الما ورد» وأشهى أنواع الحلويات من «أصابع زينب والمقروطة والمبرومة وورد الشام محشوة بالقشطة اللبنانية ومزينة بالفستق الحلبي وبزهر الليمون». أعدّت هذه الحلويات خصيصاً للزيارة التي لا تنتهي إلا بوصلة غنائية يعلو فيها صوت العود والدربكة والأغاني الفلسطينية التي تتغنى وتحتفي بأيام العزّ.
في كتاب يدعى «شارع البرج رقم 15» لعبد اللطيف كنفاني لم أحصل عليه حتى اللحظة، لكني قرأت مقتطفاً منه، كتب عبد اللطيف واصفاً البيت:
«دارنا هذه كانت وطني الأول، وطناً حقيقياً من تراب حقيقي التصقت به والتصق بي. احتكّ بجلدي ودخلت ذراته تحت أظافري، واختلطت بشعري وتسللت إلى ثنايا ملابسي، ضمّنا في حناياه أنا وإخوتي وأخواتي، ولكل واحد منّا بصمات خلّفها في أرجاء البيت، حاكورة واسعة انتشرت فيها أشجار الصنوبر والكينا والسرو. هناك شجرة الزنزلخت الحانية على جدار إحدى غرف النوم وعلى مقربة منها شجرة كازورينا توزعت من حولها شجيرات صبار افرنجي، بينما عريشة جميلة عند مدخل الدار بورودها القرمزية تحيط أحواض الزنبق وشجرة الياسمين، في الساحة الخارجية للمطبخ شجرة رمان وحيدة، كم كنا نبتهج عندما كانت تحمل كوزاً أو كوزين، فما كان ألذّ من ثمر الدار». كبرت شجرة الزنزلخت يا عبد اللطيف «مرّيت عا حيّن بعد غيبة سنة. لقيت الدّني متغيّرة بهاك الدني. متل الغريبة وقفت قدّام البواب. وما حدا منن سألني شو بني». ستبقى فيروز أغنية الفكرة المصادرة. سأتذكر دائماً هذا البيت، سأتذكر أهله من دون أن أعرفهم، وسيبقى الخيال حراً إلى أن يعودوا وتثمر شجرة الرمان.

لدى زيارة البيت، تمكّنت الكاتبة منى العمري من أخذ بعض ممتلكات العائلة التي استخرجتها قبل الهدم وترغب في إيصالها لعائلة عبد اللطيف كنفاني في بيروت، للتواصل معها: [email protected]



من مغتصبٍ إلى آخر

يتذكر عبد اللطيف كنفاني (1926)، وهو أصغر أفراد عائلته، أنّ شارع البرج الذي يقع فيه البيت، كان الحد الفاصل بين حيفا والحي اليهودي. ولذلك تحول إلى خط تماس في عام النكبة. لجأت عائلته إلى عكا بسبب القصف والاعتداءات، ومن هناك نزحوا إلى لبنان. في اتصال مع «الأخبار»، يقول صاحب «15 شارع البرج حيفا» إن قناة تلفزيونية اتصلت به منذ عامين، حين عُرض البيت للبيع. أحس وقتها أن «النكبة تتجدد بطرق مختلفة، ومنها أن يُباع بيتك الذي ولدت فيه من مغتصبٍ إلى مغتصبٍ آخر». اليوم، يؤلمه مجدداً خبر هدم البيت ومحوه نهائياً. يتهدّج صوته على الهاتف، وهو يتذكر حكاية المصحف الشريف الذي توارثته العائلة أباً عن جد. كانوا قد تركوا البيت كما هو تقريباً. ولكن، بعد قضائهم شهوراً عدة في لبنان، تذكر الوالد النسخة الثمينة التي دأبوا على حفظها في خزانة خشبية. هكذا، «أرسل والدي شقيقي الأكبر إبراهيم الذي تسلل إلى فلسطين، ودخل البيت، وعاد إلينا بها!». يقول إن هدم البيت الآن يُشعره أن خسارة فلسطين حدثت أمس. لا يزال يحتفظ بنسخة القرآن الباقية كذكرى عزيزة لكل ما فقدوه. «ستكون من بعدي في عهدة حفيدي الذي سُمّي باسمي»، يختم الحديث بصوته المتقدِّم _ مثله _ في السنّ.



معقل الثورة

في ٢٢ نيسان (أبريل) ١٩٤٨، كانت قوات «الهاغاناه» الصهيونية تقصف شارع البرج من أعالي الهدار في حيفا، فتشرّد سكان الشارع كبقية أهل المدينة وتركوا بيوتهم التي سيطرت عليها شركة «عميدار» الإسرائيلية. بعض البيوت هدمت وأقيمت مكانها مبان حكومية أو شُقّت الشوارع على أنقاضها، وبعضها الآخر مهجور أو معروض للبيع بمبالغ
خيالية.
وادي الصليب هو المنطقة العربيّة ذات الكثافة السكانيّة الأكبر في حيفا أيّام الانتداب البريطاني (1918_1948). تمتدّ هذه المنطقة بين جبل الكرمل ومسجد «الاستقلال» والكنائس المسيحيّة (حارة الكنائس). كان وادي الصليب مركز حيفا العربيّة ومركز النشاط الاقتصادي والتجاري، وكان الناس خليطاً من الحيفاويين الأصليين والعرب الذين هاجروا إلى المدينة. كل بيت من البيوت يحمل تفاصيل حياة الناس الذين عاشوا هناك، وغالبية هذه البيوت هي في قبضة شركة «عميدار» التي تعرضها أحياناً للبيع ولا تبيعها للعرب إلا بطرق ملتوية. ويعتبر وادي الصليب معقلاً للثوار في ثورة 1936 بقيادة عز الدين القسام الذي كان يسكن في وادي الصليب في أحد البيوت القريبة من المسجد، وشمله الهدم كغالبية المنازل. وفي الجهة الشمالية الشرقية لوادي الصليب، يوجد جامع «الاستقلال»، وهو من المعالم الإسلامية القليلة الباقية منذ النكبة في حيفا، وشيّد إبان الحكم العثماني، وكان إمامه الشهيد عز الدين القسام.