- 1 -

الحرب على غزة، هذه المرة التي سبقتها، أو هذه المرة والمرات العديدات التي سبقتها. إسرائيل تعيد صياغة المشهد من جديد. تضع للحرب ما يلائمها من الديكور والإنارة والإخراج. اغتيال موجّه من بعيد لشخصية رمزية. ثم الفصول المتتالية تأتي تباعاً، دون مفاجأة. سرب من الطائرات يملأ السماء. بوارج تهجم على زرقة البحر وتغلق المنافذ. كتل من النيران وخطوط دخان تتشكل فوق المدينة. أصوات القذائف تخرج من جحورها. ولك الأنقاض والنفوس الضحايا. هكذا تكتمل اللحظة الأولى من العدوان الذي لا يتركك هادئاً، أو قادراً على قطع المشاهدة والانصراف إلى شأنك.

لا. إنك تشاهد بعينين يقظتين ما تبادر به القنوات من صور حية، واصلة في الآن من غزة. واصلة كأن المكان الذي أنت فيه هو نفسه مكان الهجوم ومكان الدمار والقتل. مع ذلك، فالقتل هناك لا هنا. والدمار هناك لا هنا. صور متوالية تعطيك، بسرعتها وتشابهها، وجهاً لهذه الحرب التي بادرت بها إسرائيل، كعادتها. إنها ليست، في حقيقتها، صوراً. هي ما يفعله سرب الطائرات وهو يهجم من جهة لا نراها. فقط نقطة ضوئية في ناحية ما من السماء. وعلى إثرها دويُّ انفجار في مكان مأهول بالسكان. لا تنتظرُ طويلاً حتى يبدأ صراخ وفزع. ونفوس باكية، متأسية على الضحية التي فارقت الحياة. وأنقاض تملأ الشاشة من أطرافها الأربعة. ومعلقون يصفون باللغة ما حجبته الصورة. ولولا الإشارة إلى الساعة واليوم والشهر لظننت أن ما يحدث، اليوم، هو مجرد استعادة لما كان حدث، في ريبورتاج يستحضر حرباً مضت عليها سنوات.
لذلك لا تسأل عمن هي الضحية. حدسك صائب في تخيل هؤلاء الضحايا. لا شك في حدسك. الأطفال. والأمهات. والعجائز. هؤلاء أول الضحايا. مقدمة الضحايا. وهم أنفسهم الذين يعودون ليسقطوا ضحايا. لا يتوقف المشهد. منذ الحروب التي شنتها إسرائيل على غزة، أو قبلها على بقية الأراضي الفلسطينية. لقد أتاك المشهد، اليوم، على حين غرة، كما كان يأتيك طيلة الحروب السابقة. وسرب الطائرات الإسرائيلية. والبوارج. وأنت تشاهد أو تسمع في أوقات متقطعة. تبحث في القنوات وفي إذاعات عما يمكن أن يوضح غامضاً، أو يضيف معلومة إلى ما سبق وعرفته. تبحث وتعاود البحث. وفي اليوم الموالي، تفتش عن الصحف التي تثق فيها وتقرأ ما لم تشاهد وما لم تسمع.

- 2 -


عاشت غزة العدوان نفسه مرات لا أعرف كيف أحسب عددها. تعبتُ من الحساب والعد. حروب تتكاثر، حسب المناسبة التي تخلقها إسرائيل بأمرها وإرادتها. لكن الحصار، الذي تعيشه غزة منذ ست سنوات، هو العقاب الأشد تعذيباً للشعب الفلسطيني، والأعنف تنكيلاً به وتحقيراً له في حياته اليومية المباشرة. اعتقال جماعي في منطقة بين البحر والصحراء، باسم الدفاع عن إسرائيل، عن حق شعبها في وجوده الآمن. أي عن حق، لا حد له، في احتلال الأراضي الفلسطينية. إنها أرض إسرائيل. أرض بوثيقة سماوية. وإسرائيل هي التي تغتصب متى تشاء الأراضي وتطرد أهلها. وحين يحتمي الفلسطينيون بأرضهم لا تجد سوى ما تعودت عليه من مضاعفة عدد أفراد الجيش واعتقال الشبان واقتلاع الأشجار ومصادرة الأراضي أو هدم البيوت وإغلاق الطرق.
في الحرب تكتمل الدائرة. ما كان بدأ في شكل احتلال يتحول إلى ردع يعلن أنه أتى من أجل أن يقطع الغضب من جذوره. يقطعه بلا هوادة. حتى لا مطالبة بأرض ولا تاريخ ولا شعب. وفي كل مرة تتصاعد أصوات المتربصين من المعمرين الإسرائيليين قائلة بمكبرات الصوت وتحت حراسة أمنية: خذوا هؤلاء الأطفال والأمهات والعجائز واعتقلوهم بين البحر والصحراء. أمن إسرائيل يقتضي ذلك. وبقاء إسرائيل يدعو إلى ذلك. ولا شيء غير هذا الذي ترون وتسمعون.

- 3 -


لكن إسرائيل حولت الحرب على غزة إلى صورة بلاغية. الحرب تفيد الاستعداد للانتخابات. الحرب، بهذا المعنى، كناية عن الانتخابات. إنها الحجة الأولى التي تستبد بالعقلية السياسية ـــ العسكرية الإسرائيلية. قتل وجرح أكبر عدد من الفلسطينيين، وتدمير بيوت وإدارات ومنشآت، هو طريق الانتصار السريع في الانتخابات التشريعية. فالشعب الإسرائيلي ينتظر مشاهدة الضحايا من الفلسطينيين ليختار ممثله الأقوى في قيادة الدولة. هذه المرة والمرات السابقة. الحجة نفسها. والضحايا. لا تتخيل القوى السياسية الإسرائيلية إقامة مهرجانات للدعاية لنفسها وتحفيز الناس على التصويت لصالحها، بل تلجأ إلى ما كانت لجأت إليه في السابق. الحرب. إنها آلة الدعاية التي وحدها القادرة على إقناع المتشككين والمعترضين. ومع المشهد الذي يتكرر، سنة بعد سنة، تدرك أن إسرائيل ربطت وجودها بالحرب على الفلسطينيين، أي بقتل من تستطيع قتلهم وتهجير الباقين من أرضهم ومن ذاكرتهم وحلمهم. وجودها يتناقض مع السلام. وهي وفية لهذا المبدأ. لا سبيل إلى السلام. الحرب بمفردها ما نعدكم به. ثم الحرب. حرب أخرى على غزة.
ومن الجهة الأخرى، في الغرب، من أميركا إلى أوروبا، شعار واحد. حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وعن أمن شعبها. لا تسأل عن الأسماء والتيارات السياسية. من يمين أو يسار. من يتباهون بأنهم أصدقاء العالم العربي ومن يجهرون بعدائهم له، صوت واحد. حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، سابق على أي حق. حتى وهم يعلمون أن الحرب على الفلسطينيين مقترنة بالحملة الانتخابية، وأنْ لا سبب وراءها سوى الانتخابات. باستثناء فئة غربية قليلة، تعترض على خطاب التأييد اللامشروط لإسرائيل. إنها فئة غالباً ما توجد في هامش الحركية الإعلامية والسياسية أو حتى في الفاعلية الاجتماعية. ما عدا هذه الفئة، التي لا اعتبار لها في سيادة الهيمنة، تسمع وتسمع أصوات مسؤولين غربيين تردد الشعار نفسه. حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وعن أمن الشعب الإسرائيلي. نفسه باراك أوباما، الذي أتى إلى القاهرة، على إثر انتخابه رئيساً في زيّ مناضل تاريخي، وزيّن لنا قدومَه إلى البيت الأبيض، أصبح ينافس خصومه، وهو مطمئن إلى مصيره السياسي بعد إعادة انتخابه لولاية ثانية، في رفع الشعار الذي اختارته إسرائيل لتغطية حاجتها إلى الحرب على الفلسطينيين، من أجل الترويج للانتخابات القادمة. ومن الخطابات الفردية إلى المنتظم الأممي، باسم المجتمع البشري. صوت إسرائيل يهيمن على أيّ قرار.

- 4 -


كيف لا تحس بجميع كلمات معجم الظلم تخنق أنفاسك؟ كيف لا تود أن تذهب على قدمين حافيتين إلى غزة وتعانق أطفالها وأمهاتهم؟ كيف لا تنظر بعين الريبة إلى هذا الصنف من خطباء العالم وهم يتحدثون عن حقوق الشعوب وعن مناصرة المظلومين، فيما هم يشاهدون ويدركون أنّ إسرائيل تقتل أبناء غزة وتدمر بنيانها من أجل هدف سياسي هو الانتخابات القادمة في إسرائيل؟ كيف تستمر في الاستقبال الساذج لأخبار تأليف اللجان الدولية الخاصة بالوصول إلى إقامة دولة فلسطينية، وأنت تتفرج على اللجنة بعد اللجنة تستأذن إسرائيل، بدون حَرج، في حدود الكلام؟



وفي كل مرة أقول: حتى متى هذا القتل؟ أضيف وأنا أتساءل: ألا يتعب الإسرائيليون من تكرار قتل الفلسطينيين؟ أيعجز الإسرائيليون إلى هذا الحد عن تخيل وسيلة غير الحرب على الفلسطينيين لتحضير انتخاباتهم والدعاية لأنفسهم؟ ألا يستطيع الغرب أن يتكلم لغة الحق والعدل مرة واحدة كلما تعلق الأمر بالفلسطينيين؟
مجرد أسئلة حمقاء. فأنا، في هذه الكلمة، لا أهدف إلى تحليل الأوضاع الجديدة التي أصبحت تحيط بالفلسطينيين بعد الربيع العربي. هي كلمة ضد حرب تريدها إسرائيل ساحقة في غزة. والفلسطينيون يقاومونها، اليوم، كما قاوموها منذ عقود. سبعة أيام مضت على انطلاق القتل والدمار. كلمة لأشهد، أيضاً، على هذا العذاب الفلسطيني. كلمة لأكون حيث يجب أن أكون، وأنا أتتبع، منذ سبعة أيام، ومنذ حروب سبقت كأنها تأتي دائماً، مشاهد حرب تدمر شعباً عملت إسرائيل على تدميره من أجل وجودها هي وحدها على أرض الفلسطينيين. واجب أن أكتب كلمة هي ما أستطيع، وأنا أشاهد. لم تعد فلسطين تطلب من أيّ كان أن يحلل أو يشرح قضيتها. لأن المشكل اليوم ليس كيف نحقق للفلسطينيين استقلالهم ونمكّنهم من العودة إلى أرضهم، بل المعضلة هي ما الذي سيحدث إن نحن اختلفنا مع إسرائيل في عبارة واحدة من العبارات التي لا ترتضيها. رفع درجة الاختلاف إلى مرتبة مناهضة السامية، مثلاً؟ ومن يتحمل جحيم مآل كهذا؟ أسمع الواحد وحليفه يتبادلان التساؤل.

- 5 -


أما أنا فأقضي وقتاً في تتبع اتجاهات الكرة الأرضية، من فلسطين إلى حيث الأصداء المختلفة، أقوالاً وأفعالاً. ربما كنت أركز أكثر على الغرب، لأني ألحّ على نفسي في تكذيب ما وصل إليه انعدام الضمير الأخلاقي في السياسة الدولية. لكني لا أعثر إلا على ما يؤكد أننا في زمن ندم على القيم الكبرى للحياة البشرية. والغرب، اليوم أكثر مما مضى، شديد الحذر من نصرة الشعب الفلسطيني. نفاق تتباين ألوانه من بلد إلى بلد. تاريخ الموقف الغربي من إقامة إسرائيل ونصرتها بعيد ومعقد، لا يمكنني أن أفهمه بالسهولة التي هو يفهمها به. كل واقعة تخفي وراءها وقائع. مع ذلك، فإن الموقف الذي يعبر به الغرب اليوم عن وقوفه إلى جانب إسرائيل يبدو أكثر جُبناً وتخاذلاً، على الأقل في ضوء الربيع
العربي.
كلما تأملت وجدت نفسي تقول لنفسي بأنّ علينا أن نبتعد عن كل الأوهام التي تجعلنا نأمل شيئاً من هذا الغرب المتهاوي. صدق السابقون علينا في هذا الحكم، وهو نفسه السائد بين جميع الفلسطينيين. لا اختيار لنا في غير أن نقول إنهم صدقوا. نصرة الشعب الفلسطيني تحتاج إلينا نحن أولاً. أبناء غزة يأملون في هذا القليل الذي نقدمه لهم. إنهم محاصرون بالجوع والمرض والتشرد، مثلما هم مطوقون بسرب الطائرات وبالبوارج الحربية. أمامهم قتلى وجرحى وأنقاض بيوت وإدارات ومنشآت. صرختهم تخترق مشاهد القتل والقتل. وعلى الأرض جيش جاهز، في كل آن، ليكتسح ما لم يبلغه سرب الطائرات وما أخطأته البوارج الحربية.
لنتخلّ عن الاعتقاد بأنّ هذا الغرب سيتجرأ على تكذيب الرواية الإسرائيلية. هي الأمور هكذا. فلنتجنبْ تذرعاً بأنّ التخلي لا بد أن يُبنى على تسلسل منطقي. بيننا وبين المنطق كل من التاريخ والأسطورة. لكن علينا أيضاً ألا ننسى تلك الفئة من الغربيين المناصرة للشعب الفلسطيني. رغم سطوة الإعلام الغربي، الجاهز على الدوام لتبرئة الإسرائيليين، يوجد في كل مكان من الغرب مناصرون للشعب الفلسطيني. أفكر في هؤلاء كما أفكر في كل الذين يقومون الليل والنهار، عبر جهات العالم، ليقولوا لأنفسهم ولسواهم: نعم، فلسطين. نعم، نناهض الحرب على غزة.
المحمدية في 21/11/2012
* شاعر مغربي