«أيها السادة! إذا كان مَن رسم لأجدادكم شجرة العائلة ونسَّبكم إلى أنسابكم التي تتفاخرون بها اليوم، ما هو إلا نسّابة خيول ومزوّر محتال، فبأي كذبة تعيشون؟». عبارة لا تخلو من المرارة نقرأها في رواية مرتضى كزار «السيد أصغر أكبر» (دار التنوير). الكاتب العراقي يحرّض هنا القارئ على فهم الواقع الذي صار يعجّ بمن يريدون سرقة البلاد اعتماداً على نسبهم «الشريف». ليس عبثاً، أن يختار مرتضى كزار النجف حاضنة لأحداث روايته. هذه المدينة تعدّ اليوم أحد المكوّنات الحقيقية للحركة السياسية العراقية، رفدتها برجالات من طراز خاص... من هذه المدينة، يأخذنا مؤلف الرواية التي تبدأ مع الأشهر الأخيرة من الحرب العراقية الإيرانية. وسرعان ما تغوص باحثة في تاريخ المدينة ذات أهمية بالغة من عمر العراق في محاولة لإعادة واقع اليوم إلى أصوله التي تمتد لأكثر من قرن.
هكذا، نكتشف الكثير من الأكاذيب التي كان يروجها ويتاجر بها آنذاك، شخص مزوَّر ــ جاء نموذجاً لأشخاص آخرين ــ كان نسّابة خيول متمرس في التزوير: السيد أصغر أكبر «رسم شجرة لقرد يملكه أحد سلاطين زنجبار، مدعياً بأنه عبد من عباد الله الصالحين، مُسخ لاقترافه ذنباً من ذنوب المقربين الصغيرة». هذا النسّابة المزوّر تحوَّلَ حال استقراره في النجف عام 1871 إلى نسّابة للبشر، ليكون أحد أهم المساهمين في تغيير خريطة الأنساب العراقية وتزييفها، طمعاً بعطايا أصحاب الطلبات وأموالهم.
في ظاهرها، تتحدث الرواية عن قصص ويوميات ثلاث «عوانس» (معينة، نظمة، واحدية) حفيدات النسّابة السيد أصغر أكبر. يتعرف القارئ من خلالهنَّ إلى تاريخ النجف، وجزء لا يستهان به من تاريخ العراق، ويتعرّف أيضاً إلى سيرة حياة جدهنّ الذي خلّف وراءه مطبعته البدائية التي كان يسخرها في طباعة بيانات لمن يمتلك المال والسلطة. بعد موته، تتحول المطبعة بمكعبات حروفها إلى متعة خاصة لا تخلو من البوح عن مكابدات العنوسة وأمنياتها الضائعة. نتابع يوميات العوانس الثلاث وهن يكتبن تاريخ مدينة أسطورية، لكنها موجودة على خريطة الواقع، تماماً كمدن السندباد، لنقرأ قصصاً من نسج الخيال لا تخلو من المتعة والغرابة. وبهذا تؤسس رواية «السيد أصغر أكبر» لمنطقها البحثي، والواقعية السحرية المعتمدة في طبيعتها السردية.
صحيح أن هناك هُوّة شاسعة أو قطيعة بين «العوانس» الثلاث والمجتمع الذي يحيط بهنَّ، حيث عزلتهن في جوف سرداب رطب. إلا أنّ هذه القطيعة جاءت لتمثل عنوسة مزمنة يعانيها المجتمع العراقي. عنوسة لا يمكنها أن تلد فكراً جديداً يسهم في تغيير ظاهرة الاستسلام وانتظار اللاشيء التي صارت سمة يتميز بها مجتمع عرف الإبداع منذ خمسة آلاف عام. كل الولادات في فضاء الرواية مقطوعة، وأغلب الأشخاص مقطوعو النسل، والموت يزدحم في الأسواق والأزقة والشوارع وفي عمق الأقبية و«السراديب» المظلمة الباردة التي تشتهر بها مدينة النجف.
عند اندلاع الانتفاضة الشعبية عام 1991، نضبت الحروف وتعذر على العوانس الاستمرار في كتابة السيرة التي كانت تشغلهن، ما جعلهن يبحثن عن مكعبات ضائعة في كل زاوية من زوايا البيت حتى المرحاض. في هذا التاريخ بالضبط، نضبت آخر قطرة لكرامة السلطة العراقية، وصارت تبحث عنها في كل مكان، حتى المرحاض، تماماً كما فعلت العوانس الثلاث. وهنا ينقلنا المؤلف مع العوانس إلى رأس السلطة التي كانت تبحث عن منفذ تسترد فيه جزءاً من كرامتها، «ولأن الرئيس جمع كل نسّابي العراق في تلك الأيام، وقرر أن يعيد صياغة نسبه، بعد أن قُمِعت الانتفاضة وهدأ الناس، جيء بواحدية ومعينة ونظمة إلى بغداد، واشتركن مع فريق من الجينالوجيين والأنثروبولوجيين والمؤرخين في كتابة شجرة الرئيس».
إذاً، لم تكن المطبعة العتيقة هي جُلّ ما خلّفه «السيد» لحفيداته، بل ترك لهنّ الشهرة الواسعة، لكونهن حفيدات أهم نسّابة في تاريخ العراق، لتمتد يده في التزوير والتلفيق حتى بعد مماته «تسلمت نظمة النسب حينما همّ الجلاد بغرز سلك الكهرباء عميقاً في فرج واحدية، وأوصلت النسب إلى الحسين ابن صاحب الضريح في النجف (...) اعترض الرئيس على مرور أغصان نسبه بجدّ مغمور في أيام الخليفة المعتصم العباسي، ولم يعجبه أن يجاور أحد أجداده منزل المتنبي، بل رغب أن يكون ذلك الجد هو واحد من أخوة المتنبي، وأصر على ذلك حتى بعد أن علم بأن المتنبي عاش بلا أشقاء».
اليوم نجد الكثير من الأشخاص الذين يرون في تسيّدهم على العباد وامتلاك السلطة، حقاً طبيعياً لهم نتيجة نسبهم «الشريف». من خلال روايته، يقف مرتضى كزار صارخاً بكل هؤلاء، ليدين تبعية الإنسان إلى غير الإنسانية، فاضحاً كل نسب كاذب أو عشيرة تكونت بالمصادفة، من خلال بطل روايته النسّابة «غير العراقي» الذي صار صاحب جاه ومكانة اجتماعية نتيجة التزوير في بناء شجرة عائلة «شريفة» أو «عريقة» لكل من ليس له أصل معروف، ويبقى السؤال قائماً: من يثبت صحة نسب «السيد» الذي يريد أن يحكمنا اليوم؟ ترى هل مرت شجرة عائلته من بين أنامل النسّابة «السيد أصغر أكبر»؟