«علينا أن نتذكر دائماً أنّ الأرض ليست ملكاً لنا، نحن عليها أوصياء زائلون، فقد ورثناها وعلينا أن نورثها إلى أجيال جديدة». لعل هذه الجملة التي كتبها ميشال عقل (1944) تختصر مسيرته كمهندس ناضل من أجل الحفاظ على هوية لبنان المعمارية. في كتابَيه «الأرض ليست ملكاً لنا» و«بالثقافة نبني» (دار «مختارات) اللذين وقّعهما أمس في «دير مار الياس» (انطلياس _ شمال بيروت)، يستذكر سنوات عمره التي أرشفها عبر مقالات وكتابات وأحداث مرت معه.
يقول لـ«الأخبار»: «طوال مسيرتي، عملتُ في الكثير من المؤسسات وتحت كل الظروف بالنفس الثقافي الملتزم دائماً بحقوق الإنسان والمواطن، وبالحريات العامة والحق في العيش بكرامة، والحق في الاختلاف والتعدد والحوار مع الآخر والبناء معه».
مَن يقلّب صفحات حياته، يحار في الصفة التي يطلقها عليه: مهندس وأستاذ جامعي، وناشط في نقابة المهندسين والمجتمع المدني وأحد أهم المؤسسين للعديد من الحركات الثقافية والاجتماعية أبرزها «الحركة الثقافية انطلياس». تراه اليوم يكرّر جملته المعهودة ذاتها «لنبحث عن الأمور المشتركة بيننا، فما يوحّدنا هو أكثر بكثير مما يفرّقنا»، يقولها متحسّراً على ما جرى وما زال يجري بين أبناء الوطن الواحد، «ما فرقته السياسة، تجمعه الثقافة، فالأرض واحدة والتربة والشاطئ والهواء والماء كلّها أمور موحدة، تعالوا نجتمع للحفاظ عليها». هنا، يقف طويلاً عند الطبيعة، يحزن لدى رؤية منظر الكسارات والأبنية الجديدة التي شوهت الهوية اللبنانية. الهندسة من الأمور التي استحوذت على جزء كبير من حياته. لا يرفض الحداثة في العمارة، لكنّه يطالب بحق الماضي علينا، فـ«لا حضارة من دون عراقة الماضي والبيت اللبناني القديم يروي بأحجاره وقناطره ثقافة مجتمع بأسره. منذ الستينيات، يشهد لبنان انتشاراً عمرانياً يتصف بالفوضى والعشوائية والاعتداء المتمادي على الطبيعة والبيئة، ويتعارض بشكل صارخ مع مقومات الجغرافيا والمناخ وخصائصهما، والتراث المعماري، والبيئة الأثرية الغنيّة المميزة التي تراكمت عبر الحقبات التاريخية المتلاحقة. إنّه عمران منفر في الأحجام والمقاييس والخطوط والارتفاعات والمواد والألوان. معظم نماذجه هجينة مستنسخة ومبتذلة، تجافي الجمال البديهي، وتخرّب المشاعر والذوق، لا تتواصل مع المكان وروحه، والذاكرة والناس والمجتمع». يكتب في أحد مقالاته، متسائلاً: «إذا كان العمران مرآة للمجتمع وتعبيراً عن الثقافة والهوية الوطنية والانتماء، فإننا نتساءل مذهولين عمّا آلت إليه ثقافة هذا المجتمع وهويته في هذه الحقبة التاريخية المضطربة من وجوده». ينظر الى يديه ويقول ممازحاً «هاتان اليدان اشتغلتا بالهندسة كما اشتغلتا بالأرض والزيتون». يقولها بشغف يشعرك بحبّه لتفاصيل الحياة العربية التي ما زال يحاول الحفاظ على ملامحها عبر العمارات ذات الهندسة الشرقية. في كتابيه، يبحث عن الصور التي تبيّن الفرق بين الحديث والقديم، وبين الجبال والكسارات، متوقفاً عند الخراب الذي أحدثته الآلات الحديدية. هذا الشغف الخاص الذي كان دافعه للدفاع عن الهوية المعمارية للبنان، هو ذاته الذي دفعه إلى إطلاق مبادرات تطالب بوقف الحرب الأهلية وتحرير المجتمع والانسان، وقد ضمّها كتابه «بالثقافة نبني». بصدور كتابيه اليوم، يضع ميشال عقل بين أيدينا عمراً كاملاً أمضاه في الدفاع عن الحجر والبشر، متصدياً للحرب التي لا يبدو أنّ اللبنانيين تعلّموا من فصولها المأساوية.



عاصم سلام رفيق الدرب

يتذكّر ميشال عقل رفيق عمره المهندس الراحل عاصم سلام (5/11/2012) الذي يصفه «بالقادم الى الفن المعماري من السوسيولوجيا». يرى أنّ «عاصم سلام رائد في الابتكار من الموجود والمكان والتراث والتاريخ باتجاه حداثة معقلنة ومن دون نوستالجيا واستنقاع في الماضي والموروث، ومن دون مبالغة في استعراض وعرض التقنيات الحديثة. إنّه بالفعل منظم التناغم بين مقومات وعناصر الموجود والتاريخ ومقتضيات العصر وتقنياته الحديثة». يتحسر عقل عند ذكر رفيقه، معتبراً أنّه رحل باكراً، فـ«الأرض والثقافة والفن ما زالت
بحاجة إليه».