باريس | «سقطت جدران قرطاج، وانطفأت نار الاله بعل، ومحاربو ماسينيسا الذين هدموا أسوار سيرتا، اختفوا بدورهم كما ينهار الرمل. عرفتَ ذلك كله، لكنّك اعتقدتَ أنّ روما لن تسقط. ألم تُبن روما بسواعد رجال مثلك تماماً؟».في كتاب «خطبة سقوط روما» Le sermon sur la chute de Rome الصادر عن «دار اكت سود» (حاز أخيراً جائزة «غونكور» لعام 2012)، يُبنى كل شيء على عظات القديس أغسطينوس المرشد إلى الكتابة، تماماً كما شكّلت عذابات الحلّاج وبيوته الشعرية بنيةَ رواية «إله، حيوان» Un dieu un animal.

في رواياته كلها، يظهر جيروم فيراري (1968) هوساً بالعالم العربي حيث يقيم منذ سنوات (يعيش اليوم في أبوظبي). «يعترف» لـ«الأخبار»: «لم أُشفَ يوماً من التجربة التي عشتها في الجزائر (علّم الفلسفة لأربع سنوات هناك). لكنّني استفدت منها للسفر إلى سوريا والأردن ولبنان. كذلك، عرّفني صديق جزائري إلى الشعر الصوفي الذي أثّر فيّ كثيراً».
من خلال صورة عائلية التُقِطَت في عام 1918، تنفتح رواية فيراري على التقارب المأساوي بين البداية والنهاية. الولادة تبشّر بموتٍ حتمي. وسقوط روما الذي أنذر به القديس أغسطينوس (صاحب النظريات التي يسخر منها الكاتب والمحمّلة بالعِبَر المسيحية المسؤولة عن الشعور بالذنب) يبشّر بسقوط العالم الذي سيبتدعه في أحد بارات كورسيكا كل من ليبيرو وماتيو صديقي الطفولة اللذين لا يفترقان. لهذا السبب، تركا جامعة «السوربون» ودراسات القديس أغسطينوس ليشيّدا عالماً سيتصدّع بدوره ويسقط كما سقطت روما، غداة ليلة يهبط فيها الظلام (الأغسطيني) بشكلٍ حتمي على المصير القاسي للرجل الذي تحوّل بطبيعته إلى حيوانٍ شرس. تغيب الحرب العالمية من بعض الفصول، لكنها تسكن في غريزة البعض من أبطال الرواية، فينتقم المحروم جنسياً فرجيل من «الجغل» بيار - ايمانويل تماماً مثلما يخصي الخنازير في مزرعته.
لكنّ الامبراطورية التي يبنيها فيراري على الرمل، جميلة، حالمة، شابة، متهاونة، ومتنوّعة بوجود نادلات أتَين من كل مكان، ولطّفن بضحكاتهنّ وأجسادهنّ ليالي الرجلين اللذين كانا حتى ذلك الحين الزبائن الوحيدين في الحانة. هذا فيما تكتشف أوريلي (شقيقة الشخصية الرئيسة ماتيو، وهي مثله ثمرة سفاح قربى) عبثية الحدود في هيبون. يقول لنا جيروم فيراري: «في الغرب، لا ندرك مدى صعوبة اختراق الحدود التي نصطدم بها عندما نستقر في مكانٍ آخر، ونرى كيف يعامل طالبو الهجرة على ابواب السفرات الغربية». ويتابع: «ثمة عوالم تبعدنا عنها مسافة شاسعة، إلى درجة أنّنا عاجزون عن الوصول إليها رغم أيدينا الممدودة. وهذا ما أعتبره رهيباً». تترك أوريلي هيبون وعشيقها الجزائري ماسينيسا لأنّ عالميهما مختلفان جداً.
لا يعاني جيروم فيراري من وضعه كمنفي لأنّ ترحاله اختياري. لكنّ النفي موضوع يلفته على نطاق واسع إذ إنّه تقليد عائلي. يروي: «وُلِدَت أمي في دمشق، ووالدي في الرباط، كان جداي في الجيش والادارات الاستعمارية. كانت كورسيكا بلد منفى كبيراً، ليس بقدر لبنان».
يندمج التاريخ الفردي بالتاريخ الأشمل وتنهار الحيوات في المجال القصصي تماماً كما تنهار الامبراطوريات. في مرفأ هيبون، على متن سفينة آتية من ايطاليا، يصل خبر سقوط روما الذي لا يُصدَّق. ومن مرفأ هيبون، ستعود أوريلي بعدما تخلّت عن حبيبها الجزائري ماسينيسا، الحامل اسم ملك الأمازيغ وحاكم نوميديا الموحّدة.
يحكي فيراري قصة عائلة تمتد على ثلاثة أجيال. في الخلفية، نعود إلى الحروب العالمية. يلتقي القارئ كما في روايات زولا، بشخصيات من روايات أخرى لفيراري مثل «أين تركت روحي» Où j’ai laissé mon âme و Balco Atlantico. في هذه «المنطقة التي يكتسحها البرد والبؤس الجنسي»، تلتقي شخصيات مع أخرى مختلفة تحلم بعوالم أفضل في إطار «دراما فاقعة عن الهوية»؛ وعوالم تآكلها الحزن أو «تعذّر على الخزي أن يصيبها». ويختبر آخرون «كيف يتحوّل الحب بسهولة إلى احتقار»، وكيف أنّ الجبال «تخفي البحار وتقف بكل هيبتها وجمودها» في وجه «الأحلام الملحّة».
والحرب أيضاً حاضرة دائماً في قصصه. «لا شك في أنّ ذلك يرتبط باللاوعي» يجيبنا فيراري، متابعاً: «ها أنا أتنبّه إلى أنّني مشغول دوماً بالحرب. لقد وسّعت محور اهتماماتي الذي كان يقوم على النزاعات والعنف. في رواية «إله – حيوان»، يبدو أنّ أحداث القصة تدور في أفغانستان، لكن ما غذّى كتابتي ليس سوى واقعة أخبرني إياها في أحد الأيام سائح ايطالي صادفته في كورسيكا، وكان جندياً في قوات حفظ السلام في لبنان، واقعة عن صبي صغير كُسِرَت ساقاه وهو آتٍ من مركز تفتيش في لبنان في مطلع الثمانينيات. لدي انطباع بأنّ كل ما أقوم به يعيدني بمحض الصدفة إلى العالم العربي».