حول سلاف فواخرجي
نشرت «الأخبار» في عدد الأربعاء الفائت خبراً عن تعرّض الفنّانة الكبيرة سلاف فواخرجي لخطّة بوليسيّة تقضي بخطفها من دمشق إلى مخابئ الثوّار عقاباً لها على تأييدها النظام.
تأييد الفنّانة للنظام نابعٌ من احتضانه للفنّ بحيث تحقّقت لسوريا نهضة مسرحيّة وتلفزيونيّة وسينمائيّة فاجأت العالم برقيّها وتفوّقها وحِرَفيّتها العالية، فضلاً عن كوكبةٍ من النجمات والنجوم لا مثيل لهم في أيّ بلدٍ عربيّ آخر.

تأييد الفنّانة للنظام وفاءٌ لاهتمام النظام ليس بها بل لأعلى ما في سوريا وهو الفنّ. سلاف فواخرجي امرأةُ شهامةٍ وكرامة. امرأةُ شفافية وبطولة في التمثيل وفي الواقع.
نأمل أن يكون خبر محاولة الانتقام غير صحيح. فنّانة من نُور لا تُمَسّ بغير الحبّ.
ولئن كان الخبر صحيحاً يكون الهول السوريّ قد بلغ القاع.




مستقبل في ذلك الماضي

يخدعنا الماضي حين يغدو صِبانا.
في كلّ فعل «كان» هناك أندلس.
في كلّ ليلٍ ذكريات، وفي الذكريات يغدو كلّ شيء ملْكنا، والقمرُ أجمل، والشمس أجمل، والحرمان أجمل.
«كنّا» هي فعلُ الأفضل. نفضّل «كنّا» على نحن. ننام على «كنّا»، على «كانوا».
ما كلُّ المواضي بلونٍ واحد، لكنّها جميعاً تعيش فينا بأوّل لقاء، أوّل قبلة، أوّل اختلاس.
وثمّة ماضٍ يغلب عليه الأمل، ترجح فيه كفّةُ الإمكانات على كفّة الإخفاقات، ماضٍ سبق نفسه، سبق المحيطين به، خرج من زمنه وأخذ يركض، يوسّع الهواء، ويدعو إلى مزيدٍ من البحر ومزيدٍ من كلّ شيء.
كانت بيروت ما يحنّ إليه اليوم شبابُ العشرين وعجائز التسعين. كانت، منذ الربع الأوّل من القرن العشرين، طفلة شقراء مغرورة، وأصبحت في الثلث الأوّل غلامة عفريتة، وفي منتصف القرن العشرين وصولاً إلى النصف الأوّل من السبعينات، مراهقة هوجاء، لم تعد بحاجة إلى غواية لتغامر.
تصوّرتْ بيروت باريس على ذوقها وزايدت. تصوّرت الأندلس على ذوقها وزايدت. تصوّرت أميركا على ذوقها ولله الحمد لم تنجح في استنساخها.
تاجُ الستّين سنة الماضية هو حمّى الحريّة، أو ما حسبناه كذلك. وجوهرةُ ذلك التاج هو عدم رضانا الدائم عمّا لدينا.
كان لبنان قبلةَ العرب ولم يعجبنا لأنّنا أردناه طبقاً لخيالنا التيّاه، ولو صار كما حلمناه لأردناه بعدُ أفضل. وظللنا نصعّد أحلامنا به وله ولنا حتّى فقع بين أيدينا.
غير صحيح أنّنا نخلع دوماً على الماضي كمالاتٍ لم تكن فيه. على الأقلّ بالنسبة إلى بيروت. لدينا سجلّات الكتابة، صحافة وشعراً وقصّة ومسرحاً ومحاضرة وخطاباً ورسماً ونحتاً وتلحيناً وغناء، لدينا كلّ هذا وغيره يشهد. أقوى ما في تلك الأندلس أنّنا لم نسكر بها. كنّا نعرف، بالشكّ وباليقين، أنّنا نستطيع أن نمضي بها إلى أرقى، إلى أجمل وأعدل، وهذا ما جَلَب علينا الكوارث. لو كانت بيروت قد بلغت أقصاها لما حُطّمت. لكنّها كانت بعدُ في عزّ انطلاقتها، وخطيئتها استمرار انطلاقها... فإذا كانت انطلاقة وهذا زخمها، وهذه طلائعها، فكيف بالمقبل منها؟
لم تتوقّف بيروت عند سفوح الحرب الأهليّة وغير الأهليّة، بل خُطفت وذُبحت. لا مكان لبروميثيوس في عالم زوس.
لكن زوس أيضاً عانى من سرّ معيب حمله الخوف من انفضاحه على خفض جناحه.
كانت بيروت مدينة الانبعاث من الموت. يترمّد الخلّاق، مهما كان عظيماً، في بلده، فيأتي إلى بيروت فيقوم من رماده.
لم يكن المثقّف العربيّ يقصد بيروت ليلهو بل ليزيح الصخرة عن قبره. كانت بيروت _ وسوف تعود _ ملتقى المنى، ملتقى الرافض والمرفوض. لم تكن منتجعاً ولا فندقاً بل بركاناً. الحريّة عروس لكنّها أيضاً بركان. بركانٌ وبستان. جبلُ عواصف وطمأنينة في العواصف. لنراجع الصحف والمجلّات، لنُعِد فتح الكتب، لنَعُد إلى المسرحيّات والأغاني واللوحات التشكيليّة، وإلى الجامعات والمحافل، بيروت لم تكن فعلُ ماضٍ ناقص كما في اللغة بل فعلَ حاضرٍ صَنَع مستقبلاً للحاضر وللماضي وللمستقبل.



سرّ

ما يستوقف في كتاب «الأيّام» لطه حسين هو ما لم يستوقف أبويه ورفاقه لحظةَ أصيب بالعمى. ما يستوقف في «البؤساء» لفكتور هوغو هو ما لا يستوقف أحداً في العادة لو حصلت الأحداث له أو أمامه. كذلك شعر المتنبّي ولوحات الرسّامين والمؤلّفات الموسيقيّة الخالدة.
لفظةُ «يستوقف» خطأ: ينبغي أن نقول يُدهش، يُذهل، يعتصر القلب، ينحفر في الذهن.
ينحفر في الذهن.
العاصفةُ في الطبيعة مهيبة، لكنّها في السينما أشدّ مهابة.
الفنّ يخلّص اللحظة من وحش الزمن.





«الفلسفة الصغيرة»

من علامات النهضة الأدبيّة أنّ معظم معاصريها من النُقّاد والصحافيّين لا يلاحظونها.
إنّها ظاهرةُ عمى الشمس.
التقييم بحاجة إلى بصيرة، إضافةً إلى المعرفة والنزاهة.
تستطيع الصحافة السياسيّة أن تخطئ وتتلوّث ما طاب لها الخطأ والفساد، فإذا لم تكن الأخلاق من طبيعتها فلا رقيب عليها سوى القانون. الصحافة الثقافيّة جزء مهمّ من التربية الشعبيّة والتوعية العامّة والخاصّة، وعليه فهي مدرسةٌ في الأخلاق، بما تشمل الأخلاق من واجب البحث عن الحقيقة ووَزْن الأمور بميزان العلْم والمسؤوليّة، وتلك الفضيلة الغامضة التي تجمع الحدْس إلى الحقّ.
كانت الصحافة نوعاً من الأدب وأضاف إليها التطوّر لقب «الفلسفة الصغيرة». ولهذا أصوله وأعباؤه. ومنها التواضع وشراهةُ المعرفة.




مأوى

قولك معقول؟ معقول. حياةٌ كحياتك سلاسل من سوء الفهم. كنت أقول سوء التفاهم. ليس سوء تفاهم، بل سوء فهم. سوء التفاهم يكون بين شخصين، سوء الفهم بينك وبين الكلّ. ليس هناك فهم حين تظنّه فهماً بل هو تساهل، تسامح. شفقةٌ أو سأم من قِبَل الآخر.

■ ■ ■


جئت من الغابة. غابةُ الغُرَف لا الشجر. من مأوى الحيطان. من الجبين المغلّف بالنافذة، من السهوم، من الكتاب السابق للكتابة، من النوم السابق للوجود. من حيث الوحوش خواطر والكائنات غمام. لم تكن تلك الوحدة كآبة الحالات الرومنتيكيّة أو البوهيميّة، لم تكن معلنة بل مختبئة تحت عجين الظلّ وفي خبز الخجل. كنت لا أفهم البنات وأخاف مبادراتهنّ. وكنت أحسب أنّي أفهم الرجال وكنت أكرههم. ليس في العمر غير ليلتين، واحدةٌ لانتظار التالية والتالية للندم. لا تندم على الوقت بل على الوهم. لا تندمين على عطائِك بل على انتظارِك. كلاكما يندم على حبّه، والحبّ يَضْحك.
جئتُ من فخذِ الحائط. ما بحائطٍ غريبٍ عليّ. رأسي للحائط، جنبي للحائط، بكائي للحائط، تَجَمُّعي للحائط. الحيطان أدراجي وسطوحي، شموعي وعيناي. لا ذكرى لي بلا حائط. الحائط شجاعتي. حين أقفز وراءه أموت.

■ ■ ■


لا معقولَ في حياةٍ كهذه إلّا العبث والهباء.
اختلاجُ القلب كأنّه وَجَد، واختلاجه لأنّه لا وَجَد ولا وُجِد.
والحكي والسكوت، والسكوت والحكي.

■ ■ ■


ما أقرب طريق اللغة وما أبعدها! ليت الحقائق والمبادئ تنفذ إلى الجسد كما ينفذ الهواء! تخترقنا كالعتمة والنور! لكنّنا نسمعها على المسرح فننشرح، وتنتهي المسرحيّة فتنتهي الحقائق والمبادئ!
حتّى الألحان تنتهي، ولو حفظناها. ينتهي مفعولها عند حدود التذوّق، تحت جنح الذاكرة، تتشرّبها الروح دون العقل الفاعل، القلب دون اليدين.
نيّال الطبيعة لأنّها تفعل بلا واسطة، بلا تعبيرٍ مُتَعَلَّم، فوراً، ومراحل اختمارها لا نبصرها نحن، تُقدّم لنا أعمالها ناجزة!
لماذا نحن لا نَقْدر؟
لماذا نُطوّل لنفهم، لنولد، لنعيش؟
ألا نملك من التخطّي غير اللفظة ومن الحريّة غير الدم؟ ومن الشجاعة غير دفع ثمنها ومن الحبّ إلّا الشريك غير المشارك؟
ومن الزمن إلّا الوقت الغَلَط؟
إلى أين كما يقول التائه؟
نذهب سياحة؟ ومَن سيعطينا فيزا؟
وبلكي بالرجعة قطعوا طريق المطار؟