في الموسيقى الكلاسيكية، تتحدّد اللعبة بين شخصيتيْن أو مهنتيْن أساسيتيْن: المؤلف والمؤدّي (أو العازف). تضاف إليهما نادراً شخصية ثالثة هي المؤلف/ المؤدّي (مثل رخمانينوف). في الجاز، يصحّ هذا التصنيف مع الأخذ في الاعتبار الفروقات الصغيرة والكبيرة التي تميِّز تعريف هذه الشخصيات في كلٍّ من هذين العالميْن، لكن في الجاز، ثمة مهنة خاصة جداً لا وجود لها في الموسيقى الكلاسيكية وهي مهنة الموزِّع أو المُعِد التي قد تترافق مع ممارسة التأليف و/أو العزف. غيل إيفانز هو من رموز هذه المهنة، وهذه السنة يستعيد عالم الجاز ذكراه، فقد مضى قرنٌ على ولادته.
ما هي هذه المهنة؟ أين تكمن أهمّيتها؟ ومن هو غيل إيفانز؟ بداية، يجب الإشارة إلى أنّ ريبرتوار الجاز يتألف من شقّين: ما يُعرف بالكلاسيكيات من جهة، والمؤلفات الجديدة من جهة ثانية. الكلاسيكيات تكون أعمالاً معروفة، يتناولها موسيقيو الجاز بطرق مختلفة وبعضها يكون مصدره شعبياً أو كلاسيكياً أو البلوز... أما المؤلفات الجديدة، فهي التي يضعها عازفون يمتلكون موهبة التأليف (مثل تشارلي باركر، وتيلونيوس مونك، وديزي غيلسبي، وجون كولتراين، وكثيرون غيرهم) أو يقومون بتجربة محدودة في هذا المجال. هذه المؤلفات، تصبح كلاسيكيات بدورها مع مرور الزمن، شرط أن تثير إعجاب العديد من العازفين. بالتالي، فالتوزيع أو الإعداد في الجاز، يُقصَد به، إلى حدٍّ ما، إعادة كتابة الكلاسيكيات بحيث يستنِد الموزِّع إلى نواتها (اللحن) فيُلوِّنها على طريقته ويمنحها أبعاداً جديدة. وأعلى مستويات التوزيع تصل في الجاز إلى حجم الفرق الكبيرة (بيغ- باند)، وأحياناً تدخل الأوركسترا بشكلها الكلاسيكي، لكن هذا نادر. غيل إيفانز هو من أبرز الأسماء التي مارست هذه المهنة، وخصوصاً في المرحلة الأغنى من تاريخ الجاز (الخمسينيات). وبما أن التوزيع هو إلى حدٍّ ما شكلٌ من أشكال التأليف، كان من الطبيعي أن تحمل بعض المقطوعات المعروفة في الجاز توقيع إيفانز تأليفاً وتوزيعاً.
غيل إيفانز كندي الأصل. آلته الأساسية هي البيانو. ترك الشاب العصامي بلده متوجهاً إلى الولايات المتحدة، فانطلقت مسيرته «رسمياً» بعد الحرب العالمية الثانية. في تلك الفترة، شهدت أميركا ذروة نشاط الجاز وظهور من غيّروا تاريخ الموسيقى بعظمتهم: مايلز دايفس واحدٌ منهم، الرجل الذي قدّم لغيل إيفانز فرصة استثمار إنجازاته في التوزيع غير التقليدي (أي المختلف عمّا كان رائجاً في الـ «سوينغ») لفرق الـ «بيغ- باند». هكذا تعاون معه دايفس في ألبومات عدة مثل Birth of The Cool (والمقصود ولادة تيار جديد في الجاز هو الـ «كول جاز») وMiles Ahead، لكن قمّة ما قدّم إيفانز في التوزيع مع دايفس هو Porgy and Bess الذي يحوي توزيعاً آلاتياً لأغنيات من أوبرا جورج غرشوين الشعبي الشهير، إضافة إلى مقطوعة واحدة من تأليف إيفانز بعنوان Gone لا تقل جمالاً عن روائع هذه الأوبرا. تلا هذا الألبوم، عملٌ آخر لمايلز، تولى أيضاً إيفانز توزيعه وازدادت فيه مساهمته على مستوى التأليف. إنه Sketches of Spain الذي يشكل «كونشرتو أرنخويز» نواته، وتخيِّم النغمة الأندلسية على جوّه العام.
كانت هذه مرحلة غنيّة مع مايلز دايفس. لكن ماذا بعدها؟ ظهر الجاز الحرّ. غيل إيفانز استهواه هذا التيار. أما مايلز، فلم يكن يطيق هذه «البدعة»، فحصل التباعد النسبي، وذهب إيفانز في مشاريع وصلت إلى الروك والفيوجن وغيرها من التيارات. هكذا، بعيداً عن مايلز، وزّع للعديد من الموسيقيين، وأصدر عشرات الألبومات وقدّم العديد من الحفلات، تارةً قائداً الـ «بيغ- باند» وطوراً عازفاً على البيانو... إنه فعلاً من أبرز الشخصيات الموسيقية في النصف الثاني من القرن العشرين، وخصوصاً أن اسمه بقي بعيداً من التداول في أعمال قدّم لإنجازها جهوداً أكبر من التي قدّمها الموسيقي التي وُقِّعَت باسمه... وكل الموزعين هذا مصيرهم.