هناك بعض الزملاء يفنون عمرهم في إطلاق التصريحات، أو كتابة بيانات ظاهرها «ثوري» وباطنها تصفية حسابات شخصية، وهي تنطلق من مقولة جورج بوش «من ليس معي، فهو ضدي» أو إياك أن تخالف رأياً! في ما يتعلق بما جرى لأفلامنا في مهرجاني القاهرة ودبي، فأنا لا أعرف من ألوم، ولا أعرف على من أعتب، هل على الذين مارسوا الإرهاب وحرضوا على منع عرض تلك الأفلام، أم على إدارتَي المهرجانين؟ المؤكد أنّ تلك المهاترات ستتلاشى كما الغبار.
أما الأفلام فهي الباقية والشاهدة على العصر. ختاماً أذكّر زملائي الذين حرّضوا على منع عرض فيلمي «العاشق» في المهرجانين كيف وقفوا بحدة وشراسة ضد «مهرجان دمشق الثامن» (1991) حين استبعد عرض الأفلام التونسية بحجة مشاركة جهات إنتاجية إسرائيلية فيها. يومها أصدر هؤلاء السينمائيون بياناً مفاده أنّه يجب عدم خلط الفن بالسياسة!

جود سعيد
«القمع يمارس باسم ضدّه، أي باسم الحريّة»! وحده الأحمق يعتقد أنّ نصره يكون بوضع الآخر في قبو!
«من غير ضدّك الفكري، لا معنى لما تقول». قبول الضدّ في الحياة درس بسيط تعلمه الطبيعة لكائناتها كي تضمن بقاءها. لم يستوعب هذا الدرس من كان يتظلّم دوماً من الإقصاء والتهميش، بل مارس أوّل ما استطاع الإقصاء والإلغاء كي يكون في الساحة وحيداً واحداً أحداً لا صوت يعلو فوق صوته كما كان ممنوعاً سابقاً أن يعلو أيّ صوت فوق صوت المعركة. هل هذا اعتراف لا واع من الحرّ بمتعة ممارسة السلطة على الآخر؟ أيّة سلطة كانت! النتاج الفني خلاصة تجربة الفنان الحياتية، وهو التعبير الأسمى عن فكره ومواقفه من الحياة والوجود وخصوصاً من اليوميّ المعاش. إنّ إقصاء هذا النتاج ليس إقصاء للفنان فقط، بل هو إقصاء معنويّ لكلّ من يرى في هذا النتاج تمثيلاً لقناعاته أو للفنّ الذي يحبّ. وفي السينما «الفن الديموقراطي الجماعيّ بآليات صنعه»، يصير الإقصاء مضاعفاً، إذ يشمل فريقاً كاملاً حكم عليه السيّد الحر «المدافع عن التعدديّة» بتهمة الانتماء لشخص مخرج الفيلم!
في العالم العربي اليوم، صار امتلاك سينمائي ما لوجهة نظر غير ربيعيّة جريمة قميص عثمانها جاهز (بيان سينمائيي الداخل مثالاً). وكي يتمّ تبسيط الجريمة للجمهور، تتكفل المحادل الإعلامية بالإدانة بجعلك تابعاً ومريداً وقاتلاً بقولك وفعلك وحتى بصمتك (كما يقولون) وهكذا يصير الدّم النازف عاراً في رقبتك! إنّ السينما التي تنطق بها الأفلام الثلاثة («العاشق»، «مريم»، و«صديقي الأخير») هويتها سوريّة وهمّها سوريّ وصنّاعها سوريّون وقضاياها إنسانيّة سوريّة وهي باقية، وستشاهد إن لم يكن اليوم فغداً، والإقصاء هنا أقلّه هو إقصاء لجزء من مكوّن الهوية الثقافيّة السوريّة، أكرّر أقلّه. السينما التي أصنع تعبّر عني وعن قناعاتي ولن تعرف الممالأة لك سيّدي الحرّ كما لم تعرف مهادنة أيّ سلطة، ستبقى سينما حرّة أصيلة كزيتون بلادي.