من أجل بلوغ لحظة حرية، كان لا بد لنا من تحطيم جمهورية. الجمهورية الأجمل مذ بدأت الدول بالنشوء والتشكل. على جدارها، يشكّل الأكراد دولتهم. على جدارها، يعد الإسلاميون لإمارتهم. على صفحاتها، تحوّل الانتهازيون إلى ثوريين وضعوا النجمة الحمراء. على أرضها، انقلب اليساريون إخوان مسلمين، والإخوان علمانيين. على جدرانها، يُقتل الأبطال الحقيقيون أو ينسحبون. على أرضها، تدور معارك شرسة لإسقاط الأنظمة الآن الآن وليس غداً. أهلاً بكم في جمهورية الفايسبوك. ربما، رسم الفايسبوك تاريخاً جديداً ديموقراطياً إذا استعرضنا ملابس مشتركي الفايسبوك. أما إذا أردنا استعراض أزياء العري (المقصود هنا العري الفكري)، فلن نصل إلى نهاية للتاريخ ولن يكون باستطاعة أي مؤلف أو شاعر أن يحصر ذلك حتى لو كان الكاتب نبيل الملحم أو الشاعر نزيه أبو عفش شخصياً. أعترف بأنني لولا الفايسبوك الذي أكيل له الشتائم، لما استطعت التقاط غثيان الروائي السوري نبيل الملحم الذي أعطى الفايس اللقب الأجمل «المرحاض»: «أصاب بالقرف والغثيان كلما استندت إلى جدار الفايسبوك» يقول الملحم مضيفاً أنّه «أسوأ جدار في تاريخ النوع بدءاً من جدران الكهوف حتى جدران «البعث». حين كانت منابر الرأي محتكرة لسلطات العنف، كانت جدران المراحيض العامة مكاناً لتصريف الاحتقانات السياسية.
حين باتت منابر الرأي متاحة عبر الفايسبوك، بات الأخير مكاناً لتوليد الاحتقانات بأصنافها، ليس ثمة من ينتهك الوقت والخصوصية مثله، إنه أبشع استلاب ذهني».
أنجز الملحم سبع روايات في عام، وما زال مستمراً في الركض. في رواياته، ثورة لا يعبر عنها ببيان سياسي لحزب أو طبقة. ثورته تحرّر الروح، تحرّر الجنس، تحرر الأمل كما تحرر الجسد. في إبداع رواياته، ثمة من يصرخ بيننا وفينا، ثمة وجع يبكينا ويضحكنا، عمل يسجّل لحظة هي من الماضي لكنها ممتدة فينا، لحظة من زمن الطغيان، حين الطغيان يأكل نفسه. مع هذا، فالكاتب السوري متّهم بالحيادية على مبدأ «من ليس معنا، فهو ضدنا»، ومطالب من ثوريي الفايس بالخروج عن صمته وهو يرد: «أخفضوا صوتكم نريد أن نفكر في نهاية فيها الحد الأدنى من الإهانة، صمتي يداري جرحي من سوري يعلن ثورته، فأراه ينتقل من حضن الدولة الأمنية إلى حضن نواب الله على الأرض، نواب يساريون التحقوا بالإخوان المسلمين، فصار من حقهم مصادرة حق الآخرة».
كتب الملحم على صفحته: «مجموع ما تكيله المعارضة للمعارضة من شتائم يشكّل قاموس بذاءة ويفتتح كرخانة. مجموع ما تلعبه السلطة على السلطة مباريات في القتل والاغتيال، مجموع ما يلعبه الأزواج على الزوجات ضاعف عدد السكان خمس مرات. مجموع ما تلعبه الكراهية بالكراهية، سيخفض عدد السكان خمس مرات، مجموع ما سنقدم عليه، يساوي مجموع ما سنتراجع عنه يا بخت مواليد مجاهل أفريقيا فينا». من آخرها، يقول الروائي السوري: «هذا البلد لنا، لبنت غمرها الحب، لأم مرضعة، البلد أكبر من المتصارعين وقد حوّلوه إلى جحيم، لن أنتقل من سجن الماضي إلى مستعمرة المستقبل». من رواية «بانسيون مريم»، أقتبس: «كانت دمشق أكثر صمتاً من قحبة لها نفس السنوات من عمر المدينة». على نفس المبدأ، هجر نزيه أبو عفش جدران الفايس بعدما أصبح كما قال إسطبلاً للفاشستية الديموقراطية، وتحول إلى ميدان فعلي للقتل الدموي، رواده طغاة المستقبل يتشدقون بالديموقراطية ويرفضون الحوار. وكان آخر «بوست» كتبه الشاعر السوري: «إذا كان لا بد من موت أحد ونجاة أحد، فهذا يعني أن الجميع هالكون. الخلاف في سوريا ليس خلافاً على حائط بيت، أو ملكية شجرة، الخلاف على ميدان حياة البشر، البيت يوشك على الانهيار على رؤوس الجميع، وأنتم تتذابحون على حمل المفتاح»، لينقض عتاة المثقفين الديموقراطيين من زواياهم الباريسية أنّ «هذا ليس بيتاً، اذهب وابحث لك عن بيت». والشاعر يرد: «هذا البلد هو بيتي، معي صك ملكية به ولي جزء من عتبته وجداره وشجرته وهوائه، نتشابه لكنني أحمل تحت قميصي قلبي، وتحت قميصك مسدس، لن أنتقل من ربيع الحياة إلى ربيع المآتم». أرى مارك زوكربرك يكتب على صفحته «بوست» خاصاً بسوريا يقول: ثوريو اللحظة عمرهم من عمر السلطة، وقعت الجريمة منذ أربعين عاماً لكنهم كانوا ككلب شرلوك هولمز الذي لم ينبح، بات علينا اليوم أن نتحمل عواءهم الفايسبوكي.
* صحافية سورية