في غرفة أحد المصحّات العقلية، اجتمعت شخصيتان: الأولى مصابة بالفصام (ميرا صيداوي) تتوهم بأنّها قائدة أوركسترا، تتكلم مع موسيقييها وتنهرهم. أما الثانية (سيرين دردري)، فمُعارضة كتبت مقالة تتهم فيها النظام بإيداع العقلاء المعارضين في المصحّ. هكذا توسّطت «مسرح غلبنكيان» في جامعة LAU في بيروت منصة دائرية تمثّل غرفة المريضة والمعارضة، وإلى جانبها مكتب طبيب المصحّ (طارق تميم). أما في الخلف، فغرفة صفّ، حيث نتابع مشاهد مع ابنة المعارضة ومعلمتها.
تتنقل مشاهد «مذهب» بين تلك المساحات الثلاث. في المساحة الأكبر التي تملأ فراغ الخشبة، تتوزع فرقة موسيقية. كما في النص الأصلي للبريطاني توم ستوبارد «كل فتى طيب يستحق خدمة»، تخرج الفرقة الوهميّة من عقل المريضة النفسية لتقف على المسرح أمام الجمهور. عمل ستوبارد على المسرحية أواخر السبعينيات، منتقداً تعامل النظام الروسي مع معارضيه. وتولّى يومها التأليف الموسيقي للعرض قائد الأوركسترا أندريه بريفين. أما في نسخة «مذهب» التي عرّبتها، وأعدتها وأخرجتها لينا خوري، فأوكلت التأليف لأسامة الخطيب.
المسرحية التي اختُتمت أخيراً، تنطلق أحداثها من تعريف الشخصيات وتفاعلها. يحاول الطبيب إقناع المريضة بأنّه لا أوركسترا، فيما يحاول إقناع المعارضة السياسية بأنها مريضة نفسية. يستمرّ الوضع إلى أن يأتي الضابط العام الذي سيفرج عن الشخصيتين، لمجرد توجيهه الأسئلة المعاكسة إليهما، فتأتيه الأجوبة المُرضية. هكذا تعترف المعارضة بأنّه لا يوجد أوركسترا، والمريضة بأنّ النظام لا يزجّ العقلاء في المصحّات. وطوال العرض، تتقطع المشاهد والحوارات بمقاطع تعزفها الأوركسترا مع الغناء الأوبرالي.
إخراجياً، يعدّ تنسيق تسلسل المشاهد، والتوزيع الإيقاعي لتقاطعها مع العزف الموسيقي وتوزيعها على الخشبة متقناً وجذاباً، لكن المشكلة تبقى في الأداء الذي لا يعرف الهدوء والصمت، بل يسيطر عليه الانفعال الصارخ. جميع الممثلين يصرخون من دون مجال للعب على نوعية الأداء والصوت، والتشنج، وطبعاً الصمت الغائب عن العرض. أما الموسيقى، فمثّلت عنصراً قوياً في البداية، قبل أن تعود لترافق المشاهد والحوارات بألحان «درامية» توقعها في الميلودراما التي تستعطف المشاهد، فيما أتت تركيبة الشخصيات نمطية. المريضة العقلية لا تهدأ طوال العرض قفزاً وزعيقاً، لتظهر بشخصية «المجنونة» أكثر منها مريضة الشيزوفرينيا. ولعلّ الطبيب هو الشخصية الوحيدة التي لوّنت تمثيلها رغم نمطية المقاربة.
لا يمكن قراءة «مذهب» خارج الراهن السياسي الحالي، حيث شهدت الأنظمة العربية وما زالت حبس المعارضين، لكن التعريب والإعداد والإخراج التي تولّتها لينا خوري، كانت كثيرة الوفاء لنص ستوبارد. ربما، كان عليها أن تدفع العرض إلى محاكاة الواقع عبر تفاصيل وحالات نعرفها ونعيشها في مجتمعنا. هكذا، بقي «مذهب» معلقاً في مساحة رمادية، تشبه فيلم «الحدود» لدريد لحام، لكن من دون ذاك النفس الذي يشعرك بأنّه يتكلم عن كل حدود العالم، وعن حدود تعرفها شخصياً. وما زاد هذا الانطباع أنّ العرض يكتفي بسرد القصة من دون إضفاء معنى خفي على التفاصيل، بل وقع في الميلودراما كلّما حاول الغوص في مكنونات الشخصيات. لا يطرح العمل نفسه كفاضح لأنظمة معينة، بل يتفادى التسميات ليبقي السياق معلقاً في صفة الإنسانية. هو بذلك مال إلى تحويل مادته السياسية إلى اجتماعية، وطرح الأمور من دون تبنيها كقضية. باختصار، تنقص«مذهب» جرأة الإقدام على الفضح والمساءلة الحقيقية، لا مجرد حث التعاطف مع مواضيع انسانية عامة أُفرغت من الشحنة السياسية. لقد جاء الصراخ ليملأ فراغ هذه الشحنة، فكان «مذهب صريخ».



تاء التأنيث

في ما يخص الطرح الإخراجي لمسرحية «مذهب»، الذي تنوي لينا خوري تقديمها مجدداً في لبنان، فقد اختارت صاحبة «حكي نسوان» أن تبدل جنس الشخصيتين داخل غرفة المصحّ من رجال كما في النص الأصلي، إلى نساء. خيار قد تكون خوري أرادت عبره إظهار أنّ الظلم السياسي قد يصيب النساء والرجال سواسية، لكن على صعيد النص، لم يكن هناك ما يبرّر ذلك الخيار الجندري. لم تتم أقلمة وتعديل تفاصيل النص ليظهر خصوصية جندرية ما، بل أفضى إلى تأنيث الحوارات فقط لا غير.