يقف رشيد الضعيف في صفّ القارئ. يكتب الرواية التي يحبّ أن يكتبها، لكنه يشتغل على فكرة أن يحبها القارئ أيضاً. كأن مخيلته تشتغل على خطين متوازيين، لكنهما مضطران للالتقاء والجمع بين المؤلف الذي لا يتنازل عن مزاجه وأسلوبه، والقارئ الذي يقدِّر أن المؤلف فكّر به أثناء الكتابة. راكم صاحب «عزيزي السيد كاواباتا» هذه السمعة لدى قرائه منذ بداياته. ولعل إصدار «دار الساقي» طبعة جديدة لستٍّ من رواياته مناسبة لإعادة تذكيرنا بفرادة هذا الروائي الذي يقف على حدة في خريطة الرواية اللبنانية والعربية. هكذا، نستعيد الخفة الوقائعية في روايات «انسي السيارة»، و«تصطفل ميريل ستريب»، و«أوكي مع السلامة»، حيث العناوين نفسها تطيح «جلالة» العناوين وهيبتها، بينما تُذكّرنا روايات «ليرنينغ إنغليش»، و«ناحية البراءة»، و«عودة الألماني إلى رشده» بأسلوبية أكثر تعقيداً من دون أن تغرق الكتابة في «الأدبية» و«البلاغة» و«الجماليات التقليدية»، وهي صفات يحرص الضعيف على إبعادها عن المعجم اللغوي الذي يكتب به، ويُقرّب سردياته من القصص التي يمكن أن تحدث لقرائه أيضاً.
الواقع أنّ مفردة «اللغة» ينبغي أن تستبدل بـ«الكلام» في هذه الفصحى المبسّطة التي تحدث على تخوم العامية. «الأدب ليس مهنتي»، شعار ردده مراراً، ونراه مطبّقاً بدقة في رواياته، حيث ينشغل صاحب «تقنيات البؤس» بجعل الرواية مشابهة تقريباً للحياة، فلا تتعالى لغتها على ما يحدث للناس في أحوالهم العادية. كأنه يفضّل أن يكون «شغّيلاً» عند أبطاله أكثر من أن يكون مبتكراً لهم، وهو ما يجعله «شغيلاً» عند قرائه أيضاً. ولتعزيز هذا الإيحاء، استخدم الضعيف اسمه الحقيقي في أكثر من رواية، أو كتب بضمير المتكلم ليزيد من فضول القارئ، ويرفع من نسبة تصديقه لما يقرأ، ويوفر له جاذبية «التلصص» لاعتقاده بأن ما يقرأه يحتوي على سيرة ذاتية للمؤلف. ولكن مهلاً، فهذه الخفة وتلك الواقعية الشديدة ليستا حصيلة كتابة خفيفة وسطحية. هناك جهد هائل يُبذل من أجل إظهار الرواية بهذا المذاق السهل ــ الممتنع. التخلّي عن «الأدبية»، والرغبة في أن تكون الرواية ميسَّرة «للأمي والعامل والفيلسوف»، بحسب تعبيره، جعلتا رشيد الضعيف يضع نفسه في جلد الشخصية التي يكتبها، ويجرب أن يحلّ المشاكل التي تعترضها، واضعاً نفسه في خدمة هواجس هذه الشخصية، ومتبنياً لأفكارها وأحاسيسها. ولذلك، ينبغي أن نصدّقه حين يقول إنه ليس روائياً، بل «مجرد عامل وصاحب مهنة»، ومهنته أن يعمل بـ«دوام كامل» في خدمة الرواية التي يكتبها، وأن يظل مهجوساً بشخصياتها. ممارساتٌ مثل هذه جعلت رواياته مقروءة من شرائح واسعة ومتنوعة، لكنها لم تتحول إلى وجبات سريعة وساذجة. ربما يكون الضعيف فكّر بأن من حق الرواية أن يقرأها الآلاف، إلا أنه لا يريد في الوقت نفسه أن يُصنف ضمن الـ«بيست سيللرز». هل نجح في تخطي هذه المعادلة الشاقة؟ لعل قراءه القدامى يعرفون الجواب، بينما تنتظر الطبعة الجديدة من رواياته الست أجوبة من قراء جدد. ولهذا اخترنا أن تكون هديتنا لهم هذا العام.