الليلة، وقد اجتمعنا على شرفك، وبعضنا يسهر وحيداً منتظراً حلول منتصف الليل، والمدينة في الخارج تكاد تنفجر بألوانها وبهجتها وأضوائها وصخبها وجنونها... كلّنا سنرفع نخبك ونتلو أمنياتنا سرّاً أو علناً. سنرفع أحلامنا الكثيرة، ونقول كما قال نزار قباني «مَن له الحقّ أن يحاسبني على أحلامي؟ من يحاسب الفقراء؟ إذا حلموا أنّهم جلسوا على العرش لمدة خمس دقائق؟». سنرفع لك أيضاً خيباتنا التي نجرّها معنا من سنة إلى أخرى، سنعلّقها مع أحلامنا على العتبة وأنت تحلّ على هذه البقعة «الملعونة» في التاريخ والجغرافيا... فهل ستكون أرأف بنا؟ مثقفون وفنانون وإعلاميّون يخاطبونك فوق صفحات «الأخبار». عباس بيضون يطلب منك أن تدعه وحاله، أن تتركه بسلام، ونضال الأشقر تريد أياماً أفضل في زمن العصبيات والمصائب والحروب، ومحمد بنيس يحكي عن الحلم الذي صمت في أعماقه، وجمال سليمان عن سوريا الجرح المفتوح. مع ذلك، لا نملك أن نقفل الباب في وجهك. سنرفع نخبك، ونتوسّلك في السرّ: حافظ على أضغاث أحلامنا... على الأقل!
إليك، أيها العام الواقف على باب البيت، أكتب. إليك أنت الذي لم تولد بعد، أبعث بكلمة، على غرار أصدقاء ورفاق. اسْمُك على لسانهم ولساني. جميعاً نسميك عام 2013 ولا نختلف في التسمية. أكتب لأنضمّ إليهم بمنطق الأخوة التي تنادي علي. لا أعذّب نفسي بتفسير معنى الأخوة، أستلذها فقط. هي كلمة سرقها من لا يتقنون سوى سرقة كلمات الآخرين. لن أتركها لهم. هي لي قبل أن تكون لمن لا يفهمونها، أو يرفعونها سيفاً في وجه من يسعون إلى سواهم كما هُم، أحراراً في أن يحْيَوْا ويمُوتوا حسب ما يشاؤون.
أطل على العدم ولا أتأخر في رفع القلم وخط الكلمات. هي النفس تود أن تكلم نفساً أخرى، وأنت على باب بيت الواحد منا والآخر. كلماتي خفيفة، أحسّها تتدفق مع أمواج المحيط الأطلسي، على مقربة مني. والعدم واضح السمات، يستلقي على الأرض ويضحك. لا أعرف لمن يتوجه بضحكته، لكنه يضحك. ربما كان يستهزئ بمن لا يشاهدونه مضطجعاً فوق التراب، عارياً. في الليل والنهار تتعالى ضحكاته، كأنما هي هستيريا شخص وفد علينا ونحن نمعن في نكران أنه الذي جاء. لا أكذّبُ شيئاً من حالات العدم، مضطجعاً يضحك. أنظر إليه، بعينين مفتوحتيْن. وأعلمُ أنْ لا حجابَ يمنعهُ عن بصري. هو وأنا وجهاً لوجه. سأتركه يضحك. وهادئاً سأظل أنظر إليه. لقد امّحى في نفسي الشك واليقين، معاً. وأنت، أيها الواقف على الباب، لا أطلب منك شيئاً مما كنت في السابق أتمنّاه لي أو لغيري. كلماتي أصبحت وحيدة مع نفسها. وأكتب لك لأني أعلم أنك خلف الباب، وقريباً ستدفع الدفة وتدخل البيت. تأكدْ من أنني لن أمنعك من الدخول واختيار المكان الذي تودّ أن يكون مكانك. أنا عابر، سأفرغ المكان ذات يوم ولن أعود. أما أنت، ففي كل بداية عام ستعود وستدخل البيت وستختار المكان الذي تريد أن يكون مكانك. أنا ضيفك، من عام لعام. والحلمُ يصمت في أعماقي. يصمت ويمضي.
محمد بنيس (شاعر مغربي)





أخاطب الزمن بخوف. كل عام جديد يحمل إليّ رهبة جديدة. كل رأس سنة هو عام آخر يقتلع من عمري. لا يجدي أن أخاطبه كرفيق درب. لا يجدي أن أتوسل إليه، أن أغرّر به، أن أخدعه بأنّ لنا أمنيات مشتركة. بأننا في البحر نفسه والمركب نفسه. حطم بطل «الصخب والعنف»، رواية وليم فوكنر العظيمة، الساعة. أفهمه تماماً. لكنت فعلت مثله، ولو كان ذلك أكثر من رمز، لو أن تحطيم الساعة ليس، بحد ذاته، من أفعال الزمن. مع ذلك أريد أن أجيب لا أريد شيئاً لنفسي. أريد أن أبعد الزمن عنّي. لا أثق به. لو كان لي أن أطلب لطلبت أن يتركني في حالي. أن يتركني لنفسي، لكتابتي. لا أريد أن أتخيل وقتاً تعصى به الكتابة عليّ. سيكون العيش صعباً بدونها. سيكون ساعات فارغة وأياماً فارغة. لا أطلب شيئاً لنفسي. الهدوء، فقط الهدوء. لحظات استرخاء، بعض السلام، ها ما لا نطلبه من الزمن، نطلبه من أنفسنا. نريدها أن تكون أقوى على احتمال الزمن. ليس أقوى ولكن أكثر لا مبالاة، أكثر تجنّباً. لا أريد أن أطلب شيئاً من الزمن، لا أعرف بماذا يبادلني، أريد أن يطلب هو لنفسه. قدراً أكبر من الهدوء، قدراً أكبر من السلام، أريده أن يتعب من الصخب الذي انقضى به العام الفائت. صخب كبير ودم، دم كثير. دويّ هائل. دوي القصف وانفجار براميل الـ «ت.ن.ت» ليتوقف هذا فوراً. هذا الثمن الباهظ لما يشتريه الآخرون بلا ثمن. لما يجدونه بالمجان. ثمن باهظ للهواء، دعوا الهواء يمر، أريد أن تَرشُد الثورات أسرع مما تفعل. لا أريد عسفاً جديداً، في هذا العالم نحن آخر من يدفع ثمناً للهواء، أرجو أن نستحقه، أن نكون اشتريناه حقاً. أن يُمنح فعلاً لنا. سلامٌ على سوريا وسلامٌ لسوريا، حيث يعمل الزمن مع تحطيم العظام، حيث يعمل الزمن كالوحوش والضواري. سلام علينا ولنا نحن القادرين على تبخيس أي شيء، الذين لا قيمة عندهم الا للانتظار.
ليكن عاماً أقل رهبة هذا الذي يأتي. لنتكلم باحترام مع الزمن.
عباس بيضون (شاعر وكاتب لبناني)





أيّتها السنة الجديدة 2013 كلّما أفكّر في مطالبتك بأيام أفضل، تزدحم في رأسي أنواع الويلات والمصائب والحروب، فيصعب عليّ، وأعاني من صعوبة الانتقاء: عندنا الطائفيات والمذهبيات المستعرة، وعندنا الانقسامات العميقة والتناقضات المدمّرة، والاقتتال الداخلي والتفتيت والتشظّي الاجتماعي، والفقر والجهل، وعندنا أيضاً قيادات غارقة في مصالحها وجهلها وأنانيتها، وعندنا اقتصاد متدهور يدفع الشباب إلى الهجرة واليأس من إمكانية بناء وطن يكون بيتاً لائقاً للإنسان، وعندنا فساد ينخر جسم المؤسسات والقضاء.
وحولنا الكوارث المتمادية من عراقٍ نهبوه وفتّتوه وأعادوه إلى مكوّناته الأولى، قبائل وعشائر ومذاهب ومشايخ. وطنٌ يتآكل من سمّ ما زرعوه، إلى شامٍ يخضع لمؤامرة صهيونية ــ أميركية غربية وعربية ــ تركية، يؤلّبون عليه أبناء الظلمة ومَن يريدون من خلاله إزالة آخر عقبة في وجه التمدّد الإسرائيلي في المنطقة.
وعندنا فلسطين، الأرض السليبة، قضيتنا الأولى التي يقضمونها رويداً رويداً والعالم يتفرّج، والعرب يتآمرون عليها وقد يباركون... والله أعلم. فضلاً عن بعض البلدان العربية وثوراتها الظلامية التي تهددنا جميعاً.
حبّذا لو تكونين عوناً للمحتاجين والبردانين والمساكين والمشردين والجياع.
حبّذا لو تكونين أمّاً وأختاً لهؤلاء جميعاً.
حبّذا لو تستطيعين... فماذا ترانا لا نتمنى منكِ أيّتها السنة الجديدة 2013.
نضال الأشقر (مسرحية لبنانية)





«بتمنَّى زور شي مَتجَر ألعاب، وأختار هدايا هَيْك... هدايا كبيرة، وهدايا صغيرة... هدايا كتيرة... هدايا كلّها الي... وما حدا يقلّي بَس! لا الهدايا تخلَص، ولا الوقت يخلَص متل شي قصّة حلوة... حلوة وما بتخلص! ولفّ كلّ هديّة بشرَايط فرح، ولفّ المتجر مرّتَيْن وأكتَر، وما يخلَص المتجر... وحَمّل كلّ العلَب عا بيْتنَا، وفتّح الهدايا، وما اتعب أنا، ولا هي تخلَص... وإرجع العب أكتَر، وحسّ رح يوقَف قلبي من الفَرَح... لا قلبي يوقَف، ولا هي تخلَص... متل هاك القصَّة... حلوة وما بتخلَص...»
التوقيع: إيَّاد...
أمَّا بعد، تخجلُ أُمنياتي من قصَّتِكَ يا إيَّاد، وبِها هلعٌ من سنةٍ تنذِرُ شُؤماً في جيناتِ أرقامِها... فهل الـ ١٣ يجعَلُ من المُحتَفَى بِها محروسةً تُمطِرُ وُعوداً وتُزهِرُ حُظوظاً، أم منحُوسَةً تحرقُ أنفاس الحظّ عن بِكرةِ أبيه... وأمّه! وما نفع الأُمنيات في نسج القصّة وحبكتِها وسِياقِها؟ هل يُمكن لأُمنية مهما كانت مُعَتَّقةً في خوابي الإيمان أو مُدَجَّجَةً بِأرواحٍ مُتمرِّدة أن تُغيّرَ سطراً من القصّة؟ فالسّطور يا صديقي، إن أَقبَلَتْ عليك، حَمَلَتْكَ القصّة على بِساطٍ عجميٍّ فاخر، وإن أَدبَرَتْ عنك، قذفَت بِكَ القصّة على رؤوسٍ مُسَنَّنَةٍ وأشواكٍ مُدمِية... وعلى القصّة السّلام! القصّة يا إيّاد، أنّنا نعيش في متجر دُمَى... دُمَى بتآكل دُمَى، دُمَى بتكسُر دُمَى، ودُمَى بتهرُب من الزّمان والمكان، وبتلفّ حول نفسها عا صفحات القصّة، القصّة نفسها... منعيش ببلد منحلَمو «هدايا بالعلَب»، وكلّ واحد بيسرق هديّة وبيحطّها بقلبو، وما حدا سامع صرخة هالبلد، رح يوقَف قلبو! أتمنّى أن نطوي القصّة قبل قراءة ختامها، وأن نُرمِّم أجنحتَنا المتكسِّرة وأفئِدتَنا المتحَجِّرة ، وأنْ نكتب قصّة جديدة، قصّة حلوة... وما بتخلص!
نيشان دير هاروتيونيان (إعلامي لبناني)





أن تطلب شيئا من الزمان، أو من هذا الزمان، فإنه ضرب من الهبل. في كل الأحوال، لا يبدو العام القادم جديداً، فقد جربنا أعواماً كثيرة قبله وكلها كانت أعواما مستعملة. أما في حالتها الاعتيادية، فهي أعوام مكرورة. مر علينا مثلها الكثير مثل الذي «يأكل» مئة صفعة على «غفلة»، والعام القادم مثله مثل الأعوام التي مرت في القرن السابع أو الثامن أو الثامن عشر. سوف نستمر في ادعاء عشقنا للحق والخير والجمال كشعار أزلي لكل تجمعات العربان البشرية، ونمارس تحت لافتة كل ما نستطيع لملمته من عنصرية وطائفية واستغلال طبقي واجتماعي، في سبيل مقاومة العولمة الحقيرة والغرب النذل، والكارتلات الاحتكارية، ومصاصي دماء الشعوب، وكلنا نأكل من فتات أطباقها فخورين بعمولاتها التجارية البريئة. لن يأتي عام جديد لنتمنى عليه أن يحنو على أحلامنا أو حتى على حاجاتنا الأساسية ويلبيها لنا، فنحن قبائل التنابل المخادعين، ودعنا جلد الذات منذ طفولتنا المسترجلة سهواً، وقعدنا نحصد محاصيل «عمايلنا» بلا رضى، عل المصادفات الحلزونية ترمي لنا بما قد نتوهمه نجاحاً نفاخر الأمم به. لن يأتي عام جديد بل زمن مهترئ استهلكناه سابقاً، ولم نصنع منه سوى المرارات التي قد تكون إضافات لغوية إلى قاموس العيش العربي الأبله.
نجيب نصير (سيناريست سوري)





تنصّ العادة المبكية المضحكة على أن نصدّق أنك تشكلين منعطفاً ما، كونك جديدة، طازجة، وما إلى ذلك من ترّهات؛ وأن نتوقع منك أموراً، ونتمنى أخرى، ونطالب، ونتعهّد. لكني لن أتوقع، لن أتمنى، لن أطالب، لن أتعهّد.
أصلاً، ذاك الذي قرّر أنك ستكونين سنة جديدة في روزنامتي، وأنك من 365 يوماً، و52 أسبوعاً، و12 شهراً، وأربعة فصول، لم يستشرني، ولا أخذ في الاعتبار مزاجيتي وميلي الفرويديّ الى الاعتراض. أما ذاك الذي أفتى بأنه ينبغي لي أن «أحتفل» بقدومك، وألبس ثياباً جميلة وأضع خاتمي السوليتير وأرقص وأزمّر وأتظاهر بفرحة منتنة، فلا يعرفني من أساسه. الكوتيّون أسوأ اختراع في العالم بعد اللون البني.
بلا ما نضحك على بعض: لن أستطيع أن أغيّر شيئاً في مصير الأطفال السوريين، ولا في العهر الاسرائيلي، ولا في المسخرة اللبنانية، وهلم جرّاً. تمنيات رأس السنة باتت تشبه أجوبة المشارِكات في مسابقات ملكات الجمال: صفّ حكي.
كله كذب. أن آمل يعني أن أخدع ذاتي على مرأى مني ومسمع. يائسة؟ لا. قرفانة؟ أكثر: شبعت.
ثم أنتِ أصلاً سراب. وسراب أيضاً: أن سوف تتحسّن الأمور، وأن الله موجود، وأن الأرض قارّات وبلدان وشعوب، وأن الكون كواكب وأقمار ونجوم. سراب كلّ ما نظنّ يصنعنا: دموعنا، أحلامنا، كوابيسنا، حبّنا، صباحاتنا، حماستنا، أفكارنا، أقنعتنا، عفويتنا، كلماتنا، أذرعنا، رقّتنا، ابتساماتنا للغرباء، قبلاتنا، أحقادنا، غباؤنا، مكرنا، سذاجتنا، دهاؤنا، خياناتنا، خيالنا وغاباته، جسدنا وجوعه، جمالنا وزلّاته، ضعفنا وأخطاؤه. العالم كله سراب. و«حضرة جنابي» أيضاً، حضرة جنابي خصوصاً، سراب.
مساكين نحن البشر. شحّاذو أوهام. نخاف فنخترع، نخترع فنصدّق، نصدّق فننبلف: ولماذا كل هذا اللف والدوران؟ لكي نقتل موتنا فحسب. في تلك الأثناء، الوقت ــ ذاك الذي تشكلين أنتِ نتفة منه ــ يمرّ علينا كجريمة تعيد نفسها. وتطعن. وتصيب. وتجرح. وتميت. وما بعد الموت سوى موت آخر، حتى يسكت الوحش.
أكرّر: لا أريد منكِ شيئاً. لا أعدك بشيء. كفاك مني. وكفاني. شبعتُ، أقول. أشتهي أن أنامكِ فحسب.
لا، لستُ عبثية، ولا عدمية، ولا أيّ شيء من كل هذا. دعينا لا نفلسف الأمور، ولا نبوّب القيء. شو نفع الحكي؟ كلمة واحدة بقي لها معنى ــ ربما ــ في هذه الأيام الخنفشارية، فخذيها برحابة صدر رسالةً مني إليكِ: «طز».
جمانة حداد (شاعرة وكاتبة لبنانية)





ليتني لا أزال طفلاً يلهو في أزقة قريته، يخوضُ في وحول الشتاء مُهللاً مُتيمناً (بالاذن من ايليا أبو ماضي)، أو ليتني أعود طفلاً الآن لأشاركَ طفليّ الصغيرين طلباتهما البريئة من «سانتا كلوز» بهدايا تناسب عمرهما وزمنهما: «أنغري بردز»، «هالو كيتي»، «دورا» و أخواتها، أو لأشارك الأطفال الباحثين عن ملاذ آمن وفسحة لعب وقطرة حليب أو ماء، لكنني جاوزت الأربعين وبياض الحكمة تسلل الى الرأس والصدغين. كبر العمر وكبرت معه الأحلام، مع أنني مثل كثيرين من أبناء جيلي صرت أعرف أن «رأس» السنة فارغ تماماً كرؤوس معظم الساسة في بلادنا.
جاوزتُ الأربعين ولم يغزُ الشيب أحلامي. فقط تغيرت هذي الأحلام، نَضجتْ قليلاً، امتزج فيها الخاص بالعام، والفردي بالجماعي. لم تعد الأمنيات وقفاً على الشخصي. الأيام علمتنا أنّ لا خلاص فردياً في بلاد تلتهم الأفراد والجماعات معاً. أحلام تغيير العالم صارت نكتة سمجة. جلّ ما صرت أتمناه بلد يشبه معظم بلاد العالم، عادي طبيعي بالحد الأدنى من العادية والطبيعية، يكبرُ فيه طفلاي وأترابهما بلا خوف من الحروب والفتن، بلا عقد طائفية ومذهبية، بلا أورام شوفينية وعنصرية، بلا مظاهر فارغة جوفاء، وبلا حقيبة سفر جاهزة سلفاً لهجرة طارئة...
سأفترض أيتها السنة الجديدة المقبلة أنّ لك «رأساً» يفكر و آذاناً تسمع لأتمنى عليك أن تطلي صبيةً فتيةً نضرةً لا شمطاء كالحة كالتي انصرمت، فتيةً فتوةَ أحلام شباب العرب قبل أن يسرقها كهول الانتهازية ومخضرمو ألاعيب الأمم، نضرةً نضارةَ الهتافات والأغاني في الشوارع والميادين قبل أن يحوّلها المستبدون والظلاميون أناشيدَ مذهبية بغيضة ومقيتة في ساحات الوغى الاقليمية والدولية...
أطلي بلا رتوش ولا مساحيق، لا تكذبي ولا تتجملي، لا تخدعينا مرةً جديدة كما فعلت سابقاتك. كوني واضحةً صريحة، بلا أوهام ولا أحلام كاذبة. لم نعد نحتمل تكسر المزيد من أحلامنا على صخور واقع رثّ مهترئ. تعالي كما أنت، «بَلا ولا شي» (بالاذن من زياد)، واحملي معك بدل الوعود العرقوبية بعض الرجاء والأمل. فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل، وما أوسع جوازات السفر حين تضيق الأوطان بأحلام بنيها.
كوني عادية، ككل عادي في الحياة، لا أكثر ولا أقل. هَبي أيامنا بعض الطمأنينة وراحة البال. لا من باب اليأس والقنوط، لا من باب فقدان الأمل المحكومين به بحسب سعدالله ونوس، بل من باب واقعية (غير واقعية الحكّام) تجعلنا لا نأمل منك كثيراً مثل: تحرير فلسطين... كل فلسطين، استقرار لبنان وتغيير نظامه الطائفي العفن، توقف القتل والقتال في سوريا وتحقيق مطالب ناسها بالحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية عبر تسوية سياسية بين مكونات المجتمع السوري كافة بعيداً من لعبة الأمم والتدخل الأجنبي ومشاريع الفتن والتفتيت والتقسيم والمزيد من الخراب، بعض التنوير يرافقُ تثويراً يعمّ كثيراً من بلاد العرب كي لا تمسي أحلام الحرية خراباً وفوضى غير خلاّقة، تَوَحد كلمة العرب على مصالح العرب... كل هذا أضغاث أحلام حتى الآن، لا نتوقعه في عام أو أعوام. لكن هل لنا أن نحلم ببدايات وتباشير مثل: مصالحة فلسطينية حقيقية وعودة الأسرى الى ذويهم، اصطفاف سياسي لبناني طبقي اجتماعي يساري يميني.. ما شئت لكن لا طائفي، تَوقف الحرب السورية واستنباط حلول تحفظها وتحقق أحلام بنيها، نشوء تيارات وأحزاب مدنية عابرة للطوائف والمذاهب وبقية العصبيات القاتلة، ملامح عودة العرب الى رشدهم!
هذا غيضٌ من فيض أمنيات لا حصر لها و لا عد. لا جشعاً و لا طمعاً، بل لأننا لم نحقق حتى الآن ما هو أقل من عادي وبديهي في حياة أهل الأرض التي عليها ما يستحق الحياة. ولأهل الأرض جميعاً، للأبعدين قبل الأقربين من أهل وأصدقاء، لمن أختلف معهم قبل الذين أتفق، لا تبخلي يا سنة يا جديدة بالحب والفرح و الخير والشعر والموسيقى والجمال، ولأسرتي الصغيرة التي جعلتني أكثر حُبَّاً للكوكب برمته: الأمن والأمان والصحة وراحة البال. فهل هذا كثيرٌ عليك/ علينا؟ أم أضغاث شعراء؟
«لا أكتبُ لك قصيدةً، لا أقول أحبّك أكثر، لا يطيرُ من قلبي حمام، فقط أنامُ على يديك وأحلمُ بعالم بلا حروب ولا دموع فيضانات، بصداقات لم تفسد بعد، ومدن ما عاثتها الضغائن».
زاهي وهبي (شاعر لبناني)





لم نكن نتخيل ولا حتى في أبشع كوابيسنا نحن السوريين والسوريات، أن نرى بلدنا يدمر ويحطم أمام
أعيننا كما نشاهده هذه الأيام. بل وربما لم يقدَّر لشعب في التاريخ أن يراقب بأكمله سواء كان في داخل البلاد أو خارجها وبشكل يومي انهيار بلده، حياته، ذكرياته، ماضيه وحاضره، أفراحه وأحزانه كما يحدث للشعب السوري. هي المرة الأولى التي تغطي بها وسائل الاتصال عملية انهيار حلم بلد وأمة.
مع بداية الربيع العربي، كان السوريون بغالبيتهم ينظرون إلى هذا الربيع على أنّه النقلة النوعية التي ستنقل أحلامنا إلى حيز الواقع وسترمي بالبيروقراطية والفساد وحكم الفرد الواحد وتقديسه وقمع الرأي وانعدام الحراك السياسي إلى ما وراءنا. لكن هذا الحلم الوردي سرعان ما انقشع ليظهر مدى قبح العالم الذي نعيش فيه وليوضح لنا جلياً كم هو رخيص دم الإنسان السوري، صاحب أقدم حضارة ومدينة على وجه الأرض. ليس فقط بالنسبة إلى نظام طاب له المقام في سدة الحكم وعزت عليه التضحية بأي شيء كرمى للبلد والشعب، بل بالنسبة إلى العالم كله ولأمم الأرض قاطبة. أمم لو أدركت قيمة سوريا أرضاً وحضارة وشعباً، لفعلت المستحيلات ولوصلت الليل بالنهار من أجل الوصول إلى حلّ يحقن دماء الأطفال السوريين على الأقل.
كل ما حصلنا عليه هو كميات هائلة من الإدانات والتحليلات لمؤامرات ومناورات ومسببات اتصل فيها الاقتصادي بالسياسي بالقومي بالعربي بالديني بالفلسفي بالميتافيزيقي لما يجري في سوريا من دون القدرة على تأمين دفء لثلاثة أطفال قضوا في مخيم الزعتري في الأردن.
منذ أقل من شهر، طلع علينا الرئيس الأول من أصل افريقي باراك أوباما ذلك الرجل الذي منحته البشرية الصاعدة جائزة «نوبل» للسلام على نية التفاؤل به فقط بعد أربعة أشهر من تسلمه السلطة في بلده.
طلع علينا ليقول إنّه لن يسمح بأن تتلطخ سمعة القرن الجديد الذي نعيش فيه بالسماح للنظام السوري باستخدام السلاح الكيماوي ضد شعبه. يا للعار، يا للعار، يا للعار عليك يا رجل السلام.
هل من العدل أن يتلطخ عصرنا الحديث إذاً بدماء شعب بات عداد قتلاه يتسابق مع عقارب الوقت؟
وبعيداً عن تسمية ما يحدث اليوم في سوريا والبلاد العربية ربيعاً عربياً كان أم ثورات عفوية أو مصنعة، مؤمرات كونية ومخططات عالمية أم حرب عصابات، فإن تيّار التغيير العاصف هو قدر حتمي لا بد منه في حركة التاريخ وكل من يقاوم حركة التاريخ سيكون خارجها. هذا الرأي فتح بوابةً ضخمة لنيران كلامية وفولاذية اتجهت إلى صدور كل من قاله وآمن به. نيران تخوين وإقصاء وإلغاء وقمع واعتقال. صراع بين طرفين هما طرف ثابت وطرف يريد التحول. طرف راض وطرف حالم، طرف مقتنع وطرف طامح.
قالوا يعيبنا الأسلوب! لكن أي أسلوب هو أرقى من أن يخرج الناس بالملايين لثمانية أشهر متواصلة منشدين راقصين هاتفين متحدين الاعتقال والتعذيب والموت، مغنين أغاني لوحدة هذا الشعب ولكلمة الحرية، غير مدركين مدى الرعب الذي ستشكله هذه الكلمة التي رددناها في ظل حكم البعث لعشرات السنين في باحات المدارس من شمال البلاد إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها إلى درجة كنّا نتململ منها كل صباح لأنها قيلت ولأول مرة بإيمان كامل وتبنٍّ حدّ الموت في سبيلها، فكان ثمنها دمار البلاد وتشريد أهله.
إن الربيع العربي ليس أكثر من حلم نما في أذهان الشعوب العربية. حلم لو حققه قادته له أو فهموه، لما أشعل ثقاب البوعزيزي يباس عشب العرب من المحيط إلى الخليج. وتباً لتلك المؤامرة التي تثبت أنّنا دمى حقيرة في أيدي الكبار.
لا أحد يحبّ سوريا أكثر من الآخر ولا أحد يحق له تحديد مسار البلد العظيم إلا التوافق والتعقل. لقد وصل الحقد إلى الدرك الأسفل. لقد وصلت الإنسانية إلى الحضيض. كيف يمكن لسوري أن يتشفى بدماء أخيه؟ كيف تتركب المجازر الدموية واللفظية على حد سواء؟ كيف يرقص سوريون على دماء بعضهم البعض وكيف تتصاعد صرخات الانتقام والوعيد؟ كل هذا ولم تتلطخ سمعة القرن الجديد! كيف تحرق مدن في عمر حبو حضارة الإنسان وتدمر المساجد والكنائس والمتاحف والقلاع والآثار والغابات وتسمم المياه؟ تحت أي مسمى يفعل هذا؟ وكيف تلقى البراميل وتحز الرقاب؟ أباسم الرب يكون هذا أم باسم الحقد؟ ومن أين أتى كل هذا الحقد؟ من ربى غابات الطحالب تلك في عقول أبناء شعبي كي يقتلوا بعضهم تحت أي سبب. يقولون إن نهاية العالم هي في سنة 2012ــ12ــ21. ربما هي كذلك بالنسبة إلى بلدي، فسوريا لن ترجع كما كانت حتماً. سوريا جديدة انبثقت من القرن الجديد الذي سسيمى بالعصر السوري.
في عام 2012، وقعت أحداث كثيرة في العالم العربي والعالم بأسره بعضها كارثي وبعضها رائع. ثورات أعاصير، انتخاب رؤساء، صعود تيارات دينية إلى الحكم، واصطدامها مع الشارع، «أولمبياد» ومهرجانات وعجائب، والأغرب قفزة فيليكس. تلك القفزة التي قام بها الرجل النمساوي الأصل من سطح الغلاف الجوي إلى الأرض. رأى الأرض كلها دفعة واحدة بلا هموم ولا حروب ولا دماء. رأى سوريا قطعة واحدة وكياناً واحداً، لا دخان يصعد منه ولا أصوات قذائف ولا صرخات أطفال وشهقات أمهات وآهات آباء. شاهدها بشريانها الفراتي وبحرها، سهولها الخضراء وجبال زيتونها، كروم عنبها تتوسد جبلها الشيخ العجوز، وشامها تنبض مزيّنة بجبل ونهر وغابة. لو كنت مكانه لبقيت معلّقة في السماء لأنّني كلما اقتربت كنت سأسمع عويلاً وأرى لون دماء أحمر والكثير الكثير الكثير من الثرثرة والنميمة وقلة الفعل. سوريا كم أتمنى أن أراك من الأرض كما رأوك من السماء.
كندة علوش (ممثلة سورية)





صباح الخير أيها العام الجديد! يتشاءم كثيرون من رقمك الـ 13. إلا أني أتفاءل بك هذا العام نكاية بكُل الجاثمين على أنفاسنا، المُصابين بالتُخمة، أصحاب المعالي والكروش الممتلئة الذين يخافون من خواء جيوبهم في عامك، وأيضاً بكل الذين يتشاءمون منك ويظنون أنّ الأمل سيتحقق بعيداً عنك وعن تركيبة أرقامك التي أعتبرها أنا شخصياً تجلب الحظ للمعدومين.
وأسمح لخيالي وأحلامي هنا أن يشطحا. كُن ما شئت، فأنا لا أغيّر الأقدار ولا مصائر الناس، لكنني أعلم أنك لن تقف في عامك الجديد في وجه الجياع والعراة والثكالى والفقراء والمرضى والشهداء والمجانين والحالمين والمسحوقين واليتامى، بل ستقف مع المظلومين أينما كانوا لأنّك نار لا تهدأ أمام الريح. أعلم أنك ستشُد سواعد الثائرين والمُتعطّشين للحرية، ستجعلنا نعود إلى الميادين والشارع مجدداً حتى نُسقِط الظلم عنا والاحتلال عن أرضنا، ونوقف آلة البطش والجَزْر في وطننا العربي، ونطرد الانتهازيين والمُتسلّقين والمتاجرين من حياتنا، ويبقى الشارع للناس الذين دفعوا دمهم من أجل الحرية ودفاعاً عن حقّنا في الوجود.
أنتظرك بشدة كما لم أنتظر دخول عام جديد آخر إلى حياتي، لأني أعشق الحب والحرية. أعرف أنك ستكون لنا عام الحب والحرية، فخذ بيدنا إلى مصافي روحك، وافتح لنا الحدود كي نلتقي بأحبتنا الذين لا نراهم ولا نسهر معهم ولا نبكي على صدورهم حين نحتاج إليهم، ولا نشرب نخب الحياة معهم بسبب السياسات والموانع التي لا تعنينا ولا دخل لنا فيها، وإن استطعت، أغلق كل الأحزاب، وأسقِط كل ما هو سُلطة وتعصُّب وسلاح وجيوش تتعسكر على عتبات أحلامنا، لأننا يا صديقي نكره القيود. أكثِر علينا حالات الوَجد والجنون، وصُبّ نبيذ الأنبياء فينا إبداعاً وموسيقى وحياة. سنحيا فيك أنقياء كأناشيد الملائكة، سنجتاح القلوب بالفرح والغناء والقصائد، كأنّ بداية عامك هو «البدء»، بدء الحياة، وخاتمتك، حياة أخرى تكتمل في الحُب الذي سيملأ قلوب البشر من فيضك. سأثمل بك رغم الوجع، بكل ما أوتيت من بقايا وهج الروح لأنك رفيق الفقراء، رقم 13 «لا حظ» لك مثلنا. كن صديقاً لنا نحن المُهمّشين في الأرض، لأننا نهوى الحياة.
ريم بنا (فنانة فلسطينية)





بين الواقع المؤلم الذي ترفضه أرواحنا وبين السلام الذي ننشد ونشتهي ونتمنى ونتضرع لأجله، هناك حكاية قديمة بعمر الأزل اسمها الحياة لا تعرف عجلاتها التوقف وتمشي ما استطعنا إليها سبيلاً... ولا يمكن لهذا القطار الهادر أن يقف قبل محطته الأخيرة مهما طلب ركابه النزول قبل موعدهم. ونحن على أبواب الوادع لعام مضى، نتهيأ لنلتقي بعام جديد عسى أن يلاقينا رمز السعادة «بابا نويل» وهو يخبئ لنا هدايا ننتظرها جميعاً، بموازاة أمنيات أحملها للجميع وأنثرها أينما حللت على أمل أن تكون السنة الجديدة بمثابة غيمة حب بيضاء كبيرة، بحجم السماء الزرقاء، تمطر علينا تسامحاً ورحمة، وتغسل كل عذاباتنا، لينبت حقل فرح تتمايل فيه سنابل ذهبية تمتد على مساحة الدنيا كلها ولتنتج خيراً وليأكل كل طفل خبزاً دافئاً من يد أمه السمراء التي يسكن قلبها بحر حنان يسبح فيه «البونبون» الملون المغطس بالسكر و العسل. وأخيراً حفنة غبار سحري مضيء أرشه في الهواء لتحمله الريح في حضنها كأم رؤوم وتوصله إلى كل البيوت ليضيئها نوراً وأماناً وسماحة وسعادة. بابا نويل هل يتسع كيسك لأمنياتي الصغيرة؟ لا أنتظر من العام القادم ومن ملاكه الساحر أكثر من ذلك.
نسرين طافش (ممثلة سورية)




ها هي سوريا تحترق من شمالها حتى جنوبها. وها هي العصابات المسلحة كما يسمّيها النظام، والثورة كما يسميها خصومه، تقرع أبواب دمشق بيد مضرجة بعدما سيطرت على عدد من المدن الأخرى. وها هي الإحصاءات المرعبة لمن استشهد ولمن فُقد ولمن هو في السجون ولمن هو في مخيمات الهجرة. ها هو الخطاب الطائفي بأعلى وتائره، وها هو السلم الأهلي قد مزقته الصواريخ والأحقاد والغضب والحماقات إرباً. وها هو الجيش السوري قد أنهك وفقد كثيراً من مراكزه وعناصره وعتاده. وها هو المجتمع الدولي يقود إيقاع النظام وإيقاع المعارضة أيضاً، فالشعب السوري اليوم (موالياً ومعارضاً) لا ينتظر ما سيقوله النظام ولا ما ستقوله المعارضة إلا من باب أخذ العلم. بل يرنو لسماع دبيب خطوات اللاعبين الدوليين والإقليميين من الحلفاء و الخصوم، لأن القضية السورية للأسف لم تعد سوريا بل ورقة في ملف إقليمي ودولي.
ها هو الشعب السوري (موالياً ومعارضاً) يعيش أقسى محنة عاشها منذ انهيار الامبراطورية العثمانية، أي منذ قرابة القرن، فهو بلا طعام ولا مأوى ولا دفء ولا أمان. ها هي العدة تعد للانتقام الطائفي. لا يوجد سوري يحب أن يرى هذا ولكنها حقيقة تعبّر عن نفسها بشكل متصاعد. وما زال النظام مصراً على الاستمرار في المعركة من دون قدرة على حسمها ومن دون أمل في ذلك. حتى ولو استطاع، فإنه سيرفع علم النصر أسود على ركام وطن كان. إن القادة الشجعان لا ينتصرون فقط في المعارك بل ينتصرون أيضاً عندما يرفضون خوض معارك تفاضل بين ذواتهم ومستقبل أوطانهم. لأنهم يتماهون بأوطانهم ولا تتماهى أوطانهم بهم.
النظام فقد مبررات استمراره بادئاً بالخطأ القاتل عندما انتقى من بين كل سيناريوات المواجهة السيناريو الدموي المدعوم بلعب الكروت الدولية والإقليمية والطائفية، متوقعاً أنّ العالم سيقف إلى جانبه بمجرد سماعه للهتاف الحقير الذي يقول «المسيحية الى بيروت والعلوية الى التابوت»، وأنّ الأمهات السوريات سيخرجن للشارع لإعادة أبنائهن المتظاهرين لمجرد سماعهن بضع رشقات رصاص تردي بضعة شبان متظاهرين على اسفلت الشوارع الملتهب. هؤلاء لم يعرفوا أنّ الرصاص الذي فجر تلك الرؤوس المتظاهرة قد فجر أيضاً تسونامي الغضب والقهر المتراكم في القلوب عبر عقود من الفساد والاستبداد و القهر، فبات «الموت ولا المذلة» مقابل «الأسد أو نحرق البلد».
ألم يدرك النظام بأنّ الذين قتلوا في المظاهرات السلمية لهم آباء و أبناء وأخوة وأبناء عمومة سينتقمون لهم وسيمدون في سبيل ذلك أيديهم لمن يضع فيها بندقية ورصاصاً من دون الاهتمام بهوية هذا الشخص أو تلك الجهة؟ النظام يقول إنها المؤامرة، ونقول له بأنه فعل كل ما تحلم به المؤامرة. ها هي سوريا تنزف من كل طرف من أطرافها. وها هي الأقنعة تخفي وجوه آلاف المقاتلين على الأرض السورية الذين نعرف بعضهم ونجهل بعضهم الآخر. بعضهم يقول كلاماً سورياً، والبعض الآخر يقول كلاماً لم نسمعه أو نسمع له يوماً شبيها في بلادنا. كلام سمعناه فقط في نشرات الأخبار يدور في بلاد بعيدة عنّا مكاناً وزماناً. ماذا تريد المؤامرة أكثر مما نحن فيه اليوم؟
لقد مرّ كثير من الوقت. عشرون شهراً من الهدم تحتاج إلى عشرين سنة من البناء، فضلاً عن جراح وآلام ستبقى للتاريخ، وجزء من مناهج الدراسة في مستقبل مأمول، وأحاديث أجيال ستحكي عنّا وعما اقترفته أيدينا. عشرون شهراً من الحسابات الضالة التي أدت إلى وحشية لا أعرف إن كان سيأتي بعدنا مَن سيقوى على قراءتها أو مشاهدتها على مواقع بث الأفلام. أنا واثق بأنه ستنشأ في المستقبل جماعات ضغط سورية تطالب بحذفها لما فيها من عار يكلل جباهنا كسوريين.
لقد مر كثير من الوقت ولم يبق في الزمن إلا برهة، أتمنى أن تتسع لبصيص ضوء يخرجنا من هذه العتمة بأن يعترف النظام بخطئه باختيار الحل الأمني وفشله وعدم قدرته على الخروج بالبلاد والعباد من دوامة العنف التي بدأها، وبأن يترك لغيره من السوريين فرصة التقدم إلى الصفوف الأولى والعبور بالبلاد إلى شط الأمان، وأن يتمتع المجتمع الإقليمي والدولي بحس أخلاقي يمنعه من استغلال صراع الشعب السوري من أجل حريته ودولته المدنية الديموقراطية في معارك نفوذ قد تتوسع بدائرة الكارثة لتصل بنا إلى فجوة سوداء لا قرارات تبتلع وطن الأبجدية الأولى الذي بناه أجدادنا عبر آلاف السنين.
إننا نحلم أن يكون العام الجديد عام عودة الحياة إلى سوريا ثانية. سوريا القادرة بوحدتها وحريتها وديموقراطيتها ومدنيتها على تأمين الحياة الكريمة لأبنائها واستعادة المغتَصب من أرضها.
جمال سليمان (ممثل سوري)