بديعة امرأة عجوز تنتظر شبح الموت، تشتهيه أحياناً، تريده أن يأتي إليها. وحين يأتي، تتحداه: لن يزورها الموت قبل أن تقرّر أنها جاهزة له. تزيد احتفالات رأس السنة من وحدة بديعة. تنتظر توقعات ماغي أو «تبصيرها» ثم تستعيد ماضياً كللته أمجاد الصبا وغوايات فتاةٍ كان الجميع يتطلّع لقضاء أمسيةٍ معها.
في «أسرار الست بديعة»، لعب مؤلف العرض المونودرامي ومخرجه جيرار أفيديسيان على نقطتين: شخصية بديعة (ندى أبو فرحات) التي تدوزن حاضرها كالأكورديون على أنغام ماضٍ تعرف أنه لن يعود. تتنقل ندى أبو فرحات بخفة بين الماضي والحاضر، بين المضحك والمؤثر. هذا الأداء تميز بفطنة وعفوية تفاعل معهما الجمهور بشكل طريف. النقطة الثانية التي أراد أفيديسيان أن يبرزها في العرض هو جعل صورة تلك المرأة مطابقة ومزاوجة ومنصهرة مع صورة المدينة بحيث تصبح بديعة هي بيروت. بيروت الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، وبيروت اليوم التي تشارف على موتها كأيقونة أو كصورة.
إذاً من هي بديعة؟ هل هي بائعة هوى؟ أم امرأة أحبت غوسطين وتزوجته ثم لم يحالفها الحظ؟ هل تخيّلت أنها تزوجته؟ هل تملك قصراً أم لا؟ هل تحولت بعد موته إلى بائعة هوى بعد موت غوسطين أم أنها مجرد عشيقة لنصف رجال بيروت؟ تقصد أفيديسيان خلق هذا الالتباس لصالح مزاوجة بديعة مع بيروت المدينة، ولم نتيقن مئة في المئة أن بديعة متزوجة من غوسطين إلا في نهاية العرض.
لم تسرّ لنا بديعة تماماً بأسرارها. بخلت علينا نحن المشاهدين بذلك أو ربما لطرافة شخصيتها المقربة والمحببّة، لم نشبع من حكاياها كما يجب. في نصف الساعة الأولى للعرض الذي يقدم في «مترو المدينة»، كانت شخصية بديعة أخاذة. أدهشتنا بتفاصيلها الصغيرة وبعفويتها.

«أسرار الست بديعة» مونودراما من تأليف وإخراج جيرار أفيديسيان

وكانت خيارات أبو فرحات في لعب الدور ذكية: ابتعدت عن كل الكليشهيات الأدائية التي تجعلنا نرى في بديعة المرأة الشهوانية أكانت بائعة هوى أم زوجة متفقة مع زوجها على نمط العلاقات المفتوحة. جعلت لشخصيتها خصوصية ما، ضحكت مع بديعة على بديعة معظم الوقت وأضحكتنا معها. استعارت فرح الجدات المحبات للحياة رغم كل شيء. بعد النصف ساعة تلك، كنا ننتظر بعطش لحكايا كثيرة تمدنا بها بديعة أو يمدنا بها المؤلف ولكن شخصية بديعة التهت عن الأسرار التي وعدت المشاهد بها عبر ملاحقة وهم المدينة أو بمطابقة الأيقونة. «بيروت أيام العز... بيروت السهر... أيام الزيتونة... الكيت كات». لا اعتراض على بيروت أيام العز، لكن هل من إضافة ما إلى منطق الـ «كارت البوستال»؟ هل من خصوصية قد نرصدها في يوم مميز ولا شبيه له من بيروت أيام العز؟
في لحظات، كانت ذكية جداً تلك التمريرات أو «القفشات» التي تربط مصير بديعة المشرفة على الموت بمصير المدينة، لكن تلك التمريرات قد تفقد فطنتها حين تُكرر وتصبح هدفاً بحد ذاته من دون أن يحصل تطوّر مماثل في تفاصيل الحكاية، وهنا نعني حكايا بديعة: ركز أفيديسيان على صورة بيروت الشهوانية وضمّن شخصيته مونولوجات وثرثرات معظمها مضحك، لكنها اتجهت نحو اتجاه واحد، ما أبطأ عملية التطور الدرامي لشخصية بديعة. في لحظات كثيرة من العرض، كان الإيقاع يهمد همدة واحدة من دون مبرر لينتفض مجدداً.
بدا هذا الانصهار الذي سعى إليه أفيديسيان بين شخصية بديعة والمدينة منقوصاً لأنه انشغل عن شخصيته بـ «أيقنة المدينة». رأينا مواقف لبديعة، وسمعنا القليل من حكاياها التي تمتّن تلك المواقف (اذا ما استثنينا بعض تفاصيل قصتها مع غوسطين وحكاية الرجل الذي انتحرت زوجته بسببها وتفاصيل عابرة أخرى). تلك المرأة التي تقارب على التسعين أو ربما تخطت التسعين، قد تملك من الحكايا ما يتسع لمدنٍ تظهر في قوالب مغايرة: قد يخرج ألف شكل لبيروت من رحم امرأة عاشرت مئة رجل. لماذا نحصر أنفسنا بصورة واحدة وخطاب واحد لبيروت... وهل حقاً «بيروت أيام العز» واحدة؟
تلك تساؤلاتٌ لا تمنع متعة فرجة «الست بديعة» ولو ابتعدت عنا أسرارها.

«أسرار الست بديعة»: كل ثلاثاء 21:30 مساء ـــ «مترو المدينة» (الحمرا ــ بيروت) ـ للاستعلام: 76/309363