عاصر حليم جرداق (1927) كل أجيال المحترف اللبناني تقريباً، فقد بدأ الرسم مع نضج تجارب الرواد الأوائل، ودرس الفن في لبنان قبل أن يذهب إلى باريس سنة 1957، ويعرّض تجربته لتأثير التيارات والأساليب الأكثر حداثة وتجريباً حينذاك. الفنان اللبناني الذي اشتهر بفرادة محفوراته، واشتغاله على ممارسات وتقنيات منفتحة على التجريب والتلقائية، ظل حديثاً وظلت لوحته حديثة، وظل معاصراً بطريقة ما لمجايليه ولمن جاؤوا بعده أيضاً.
معرضه «أعمال مميزة» الذي افتُتح أخيراً في غاليري «جانين ربيز» يعيد إلينا تلك «اللمسة» الحديثة التي لا نزال نراها في أعماله الموزعة بين الحفر والكولاج والنقش ومجسمات النحاس والتخطيطات التجريدية والمائيات والباستيل. وتتعزز هذه اللمسة أكثر حين تحضر في أعمال تعود إلى منتصف الخمسينات من القرن الماضي، مثلما تحضر في أعمال أحدث تعود إلى سنة 2003. كأنّ جرداق بدأ ناضجاً واستمر كذلك، من دون أن ننسى طبعاً تأثير إقامته ودراسته الباريسية على ذلك، حيث غرف من تأثيرات التكعيبية والوحشية والتجريد والسريالية، وتسربت إلى أعماله تأثيرات قوية من فناني حركة «كوبرا» التي خلط مؤسسوها، وخصوصاً كارل آبل (1921 – 2006)، بين ممارسات فنية عديدة، وتحرروا من المصطلحات والتعريفات العريضة لصالح اللعب والتحرر والتجريب.
إيحاءات شرق آسيوية ويابانية وهندسة السجاد الفارسي في أعماله

أهمية جرداق أنه انجذب إلى الحاضر والمستقبل، وأنجز أعمالاً لائقة بزمن إنجازها، وقادرة في الوقت نفسه على الذهاب في الزمن والصمود أمام التقادم الطبيعي. أعمال جرداق مهمة ليس لأنها من صنع معلّمٍ كبير بل لأنها حديثة فعلاً. ليس العِتق النوستالجي الذي ينبعث عادة من أي عمل فني قديم هو الذي يصنع إعجابنا بأعماله، بل لأن هذه الأعمال نفسها قادرة على تمديد هذا الإعجاب وإدامته، وهو ما يحدث في تجاور أعمال من أزمنة متعددة داخل فضاء المعرض الذي يبدو استعادة، وإن انتقائية، لمسيرة جرداق «صاحب الرؤيا، وصاحب المغامرة» بحسب كلمة الناقد والفنان سمير الصايغ الذي يشير أيضاً في تقديمه للمعرض إلى أهمية ما كتبه جرداق في كتابيه «تحولات الخط واللون» و«عين الرضا»، بينما الراحلة هلن الخال في شهادة مكتوبة عام 1967، تدعونا إلى تتبع إيحاءات شرق آسيوية ويابانية وهندسة السجاد الفارسي في أعماله. والواقع أن هذه الإيحاءات متأتية من اللعب والنبرة المينيمالية المتحررة في أغلب لوحات جرداق المنجزة أصلاً بخطوط بسيطة وقليلة وخافتة، تحافظ على تلك البساطة في الأعمال الملونة وفي الكولاج، بينما أشغاله المعدنية ومصوغاته النحاسية تبدو أكثر رقة وبساطة، كما أن بعض التخطيطات التجريدية تبدو مثل حروف غامضة في أبجدية مجهولة يمكنها أن تخلق صلة ما للفنان بأشكال ومحفورات موجودة في الآثار والفنون القديمة للمنطقة أيضاً.
كل هذه الإشارات والإيحاءات ترافقنا ونحن نتأمل مهارة حليم جرداق في تأليف لوحاته ومجسّماته ومحفوراته. ننتبه إلى صياغاته الذكية في الكولاج، حيث يلصق تخطيطاً قديماً أو جزءاً من لوحة سابقة له بجوار لوحة جديدة مرسومة أصلاً بمزاج اللعب والعفوية. وننتبه أن الكولاج هنا ليس مكلّفاً بمهمة صنع مفارقة لونية أو شكلانية، وليس موجوداً لكسر سياق اللوحة وتشويش عناصرها، بل يتحول إلى جزء جوهري في تأليف اللوحة ونسيجها. الكولاج هو رسم إضافي وليس تدخلاً خارجياً في مبدأ اللوحة. وننتبه كذلك إلى المهارة المتأتية من اللعب والعفوية في تخطيطاته التجريدية التي تخلط الهندسة الشكلانية مع غنائية منضبطة تنتج عن تجاور الخطوط أو تمايلها وتموّجها في حركة حُلمية ورجراجة. وتُلفتنا محفوراته بالأبيض والأسود، وتلك الملونة أيضاً. ونتوقف مطولاً أمام براعته في التصرف بالنحاس والمعدن بصبر صائغي الذهب والمعادن الثمينة. إنها تصاميم واشغال متناهية في الصغر والدقة أكثر من كونها بحثاً نحتياً واضحاً ومقيداً بعلاقات الكتلة والفراغ، وبعضها يبدو مثل خيوط وأسلاك منسدلة من الأعالى أو صاعدة من الأسفل.
اللمسة الحديثة التي تحدثنا عنها تواصل إرسال انطباعات مدهشة وجديدة. يحدث ذلك في أعمال مبكرة وأعمال أحدث. لمسة لا تزال شابة ويانعة في تجربة حليم جرداق الذي وصل إلى عامه الثامن والثمانين، وظل محتفظاً بروحية الخربشة واللعب والتجريب.


* «حليم جرداق: أعمال مميزة»: حتى 31 كانون الأول (ديسمبر) ـــ غاليري «جانين ربيز» (الروشة) ـــ للاستعلام: 01/868290