استعارت المجموعة القصصية «الجزائر: عندما تنام المدينة» Alger: quand la ville dort، العنوان الفرنسي لعمل سينمائي شهير هو «أدغال الإسفلت» The Asphalt Jungle (١٩٥٠، مع سترلينغ هايدن ومارلين مونرو في بدايات مشوارها). لكن هذه الإشارة إلى فيلم جون هيوستون، ليست إلا ذريعة للحديث عن العاصمة الجزائرية، بعيداً عن «كليشيهات عفا عليها الزمن» على حدّ تعبير الناشر «دار البرزخ».
في إطار هذا البرنامج السرديّ الصريح، أطلق سبعة كتاب جزائريين العنان لمخيّلة لا أثرَ فيها للعاصمة كما رسمها الفنانون المستشرقون من أمثال أوجين دولاكروا، أو كما تروج لها الوكالات السياحية اليوم: جوهرةً بحرية لامعة، وقصبة عتيقة تجوبها أطياف القراصنة، منذ أن أدخلها خير الدين بربروس عنوة، حلبةَ التاريخ الحديث مطلع القرن السادس عشر.
ما يربط هذه النصوص ليس التذكارَ الحنينيّ لما (قد تكون) كانت عليه الجزائر في سالف الزمان. إنّه، إن صح القول، مناخ الرواية السوداء، وما يميزه من نظرة غير متفائلة إلى الواقع الحضري، وفضح لخطاياه الخفيّة، عندما يخلد «المواطنون الصالحون» إلى النوم.
لا يروي الجزائر في «عندما تنام المدينة» المثقفون، ولا عاشقوها المتيّمون من أمثال حيمود إبراهيمي الشهير بـ«مومو»، بطل فيلم محمد زينات «تحيا يا ديدو» (1971). من يرويها في الكتاب أناس عاديون: عسكريّ أصيب وهو يدافع عن «الوطن» ضد عدو وهمي جديد (كوثر عظيمي)، شبّان في مقتبل العمر يبحثون عن الحب والمتعة والثراء معاً (هاجر بالي)، مفتش شرطة يقوم بتحقيق سريالي في قضية سريالية (حبيب أيوب)، مومساتٌ ومدمنون وكائناتٌ تعيسة أخرى (شوقي عماري، وسيد أحمد سميان)، سائق تاكسي مهنته الحقيقية إغواءُ جاراته (علي مالك) وأحدُ سكان الأقاليم ممن يختلط في قلبهم حبُّ العاصمة بمقتها وبما يتصورونه من احتقارها للغرباء (كمال داود).
وباستثناء قصتي علي مالك وكمال داود، تصف نصوص المجموعة من زوايا متقاربة غابَ المجتمع الحضري، عندما تتحول المدينة إلى مملكة لا يرتادها سوى المهمّشين، والأقوياء من أبناء أساطين النظام. لهذا، جاءت صورتها مصبوغةً بصبغة العتمة، كمكان أطبق عليه العنف طوال عقدين، فطبع مزاجَه بسوداوية عميقة وقضى فيه على كل ما يشبه حياة العواصم. لا نساءَ في ليل «سُرّة العالم» قصّة حبيب أيوب المتهكم، سوى مومسات، لكل مأساتها، أو فتيات لديهن من الجرأة ما يكفي لخرق قانون غير مكتوب، يجعل الشارع الليلي حكراً على الذكور. ولا رجالَ سوى يائسين، يترددون على حانات تفيق من سباتها بعد انزياح النهار، ليغرقوا آلامهم في الكحول. ولا حانات سوى جحور، كما في «الغار» لهاجر بالي... جحور لم تطلها يدُ التزمت الديني (الحكومي)، ولا تفتح أبوابَها لغير «زبائنها» الأوفياء، أي هؤلاء اليائسين واليائسات. في «رجل بلا أجنحة» لشوقي عماري، لا تبدو الجزائر مكاناً يتوزع ليله بين جرائم المترفين، وصرخات ضحاياهم، كنتيجة لرغبة استفزازية في كشف وجهها «الآخر». صورتها هذه، هي نفسها في نصوص أدبية أخرى صدرت في السنوات الأخيرة، نذكر مثلاً «صلاة الموريسكي» (2008) و«حديقة باهرة الجمال» لسفيان حجاج (2007). وقد لا تشير قتامة بورتريه العاصمة في أدب سنوات الألفين الجزائري إلى ظواهر يأس فردي عابر، بقدر ما تشير إلى وجود هوية أدبية جماعية سمتها التشاؤمُ المرّ. طابع يلازم كتاباً شباباً بدأوا مشوارَهم وسط أهوال حرب أهلية، وشبّوا فنياً في عقد مليء بالمفارقات، وفي بلد جميل، مكبّل اليدين، تحت وطأة نظام سلطوي يتأرجح بين الأصالة المغبرة والمعاصرة الفجّة، ونظام قِيمي أساسه كتمان الفضيحة، والتزمّت الأخلاقي الظاهري.