الليلة، ينظّم تجمّع «أنقذوا تراث بيروت» (المشهورة أكثر باسمها الإنكليزي) ما يشبه الاحتفال الجنائزي، للبكاء على أطلال «مقهى الجمّيزة» الذي يقفل أبوابه ليتحوّل إلى مجال استثماري آخر. والمبادرة تدعو في أقلّ تعديل إلى الاستغراب. إنّها تسلّط الضوء على سذاجة ذلك التجمّع الشاب الذي لا شك في نياته الطيّبة، ومشاعر ناشطيه، وإحساسهم الحقيقي بالخطر، وخوفهم (المتأخّر) من الوحش الاستثماري الزاحف الذي لا يقتصر على حيّ الجمّيزة أساساً، ولا يقتصر على العمارة أصلاً. لكن هل يعون حقّاً طبيعة الوحش الذي يحاربونه بسيوف الكرتون؟ هل يعرفون كيف أنجبته أيديولوجيا «الإعمار» التي حوّلت لبنان إلى كباريه كبير، بلا شعب ولا ذاكرة، ولا ثقافة ولا روح؟ هل خطر ببالهم أن السياسة التي تتنازل عن حقوق الوطن والشعب للمصالح الاستعماريّة المختلفة، هي نفسها التي تبيع المدينة مربعاً بعد آخر لرؤوس الأموال الطفيليّة ـــــ بغضّ النظر عن هويّتها ـــــ كي تبني غيتوهات للأغنياء، وتطرد أهل الطبقة الوسطى وما دونها إلى الأطراف، وتصنع منهم مواطنين مقهورين، جنود احتياط للحروب الأهليّة المقبلة؟ هذا هو العمران... فكيف يكون الانحطاط والخراب إذاً؟
«مقهى الجمّيزة» الذي انطلق أوّل العقد الماضي، وانتهى بانتهائه، أبلغ مثال على المتاجرة بالتراث وتشويهه وتسطيحه، وتحويله مجموعة من الكليشيهات الفولكلوريّة البليدة. ذلك الديكور المزيّف الذي يحاول تقليد القديم، بلا روح أو ذوق، يقول كل شيء. صرعة يمكن أن نسمّيها «شعبي ـــــ شيك»، اغتصبت ذاكرة المكان وهويّته. «ملطش» حقيقي لفئة اجتماعيّة معيّنة، ولكل أنواع السيّاح بمن فيهم اللبنانيون داخل وطنهم. آلات غير مدوزنة، وعود مكهرب تئز أوتاره فتقشعرّ الأبدان، ومغنّون ينشّزون، والصوت مرتفع يصل الى المرّيخ، في فضاء صوتي (أكوستيك) غير مناسب. ضجّة ونشاز، هستيريا وصخب، فرح سطحي مزيّف. جموع تأكل وتشرب وتدخّن النارجيلة، وتصرخ وترفع أياديها في الهواء، وترقص كالدببة التي تتظاهر بالفرح. لم نتكلّم بعد عن «الغارسون» الذي يذكّرك بأفلام المافيا... عن «الفاليه باركينغ» هذا الاختراع الذي يختصر وحده كل العبقريّة اللبنانيّة. كيف لك أن تستمتع في مكان يلوّث الذائقة، ويعتدي على الأذن والإحساس؟
ننتظر من ناشطي «سايف بيروت هيريتادج»، حدّاً أدنى من الوعي والحس النقدي. إذا كان «مقهى الجمّيزة» نموذجاً لـ«التراث» الذي يدافعون عنه، فمعنى ذلك أن عليهم إعادة النظر بمشروعهم من أساسه. ألم يكن ضربة المعول الأولى في أساسات الحي الشعبي السكني الهادئ الذي بات اليوم جنّة المستثمرين؟ «مقهى الجمّيزة» نذير شؤم، عنوان انهيار حيّ كامل، وبداية خرابه المعلن: العمراني والبيئي والاجتماعي والإنساني. حصان طروادة. الطليعة الاستكشافيّة التي مهّدت لزحف البرابرة. من المبالغة طبعاً أن نحمّل مقهى مسؤوليّة تقع على كاهل سلطة رسميّة شجّعت على الجريمة، بدلاً من أن تقوم بدورها في حماية الحيّ من هوس الربح السريع؛ سلطة آخر همومها التخطيط المدني والاقتصادي، وحماية عامة الشعب. لكنّ هذا المكان، مهما قيل، يبقى رمزاً لانحطاط الشارع، وتشويه معالمه العمرانيّة، وتمزيق نسيجه السكاني. كلّهم جاؤوا بعده، يسيل لعابهم ويفركون أيديهم، ليستثمروا في هذا «الحيّ ذي الطابع التراثي»... فإذا بهم، خلف ستار من ضحكات الساهرين وزماميرهم، يمحون معالمه وذاكرته وتراثه، ويطمرونها تحت الأبراج والمشاريع السكنيّة السوبر دولوكس. لقد أدّى «مقهى الجمّيزة» اليوم قسطه للعلا، وانتهى دوره. صار بإمكان المستثمرين أن يعبروا بجرّافاتهم على جثّته كما عبروا على جثّة الحي التراثي. أخطأ «أنقذوا تراث بيروت» في التاريخ الذي كتبته على قبر الفقيد. كلا ليس (١٩٢٠ ـــــ ٢٠١٠)، بل (٢٠٠١ ـــ ٢٠١٠): سنوات تحوّل الحيّ، وتوجّهه نحو الكارثة. هل نلوّح الليلة بمناديلنا البيضاء في وداع «مقهى الجمّيزة»؟ أم نرقص على قبره، عسانا لا نزال قادرين على طرد الأرواح الشريرة؟