يحمل أندريه غاسبار، ناشر «دار الساقي»، اسماً ذا رنّة أجنبية. عيناه الزرقاوان تزيدان من التباس في الهوية سرعان ما يتبدّد مع انكشاف سيرته فصلاً تلو آخر: من المناخ الساحر الذي يغلّف حديثه عن قريته الشماليّة طرزا (قضاء الجبّة بشرّي)، كأنها قرية «ماكوندو» في رواية ماركيز «مئة عام من العزلة»، إلى تمرّد المراهق على برجوازية العائلة، وانخراطه باكراً في العمل السياسي قبل أن يدخل مرحلة التشكيك، ويتحول إلى العمل الإنساني. كل ذلك، إضافةً إلى مغامرات قام بها، ليست أُولاها اكتشاف أميركا، ولا آخرتها تأسيس مكتبة «الساقي» عام 1979 مع صديقة عمره الراحلة مي غصوب وكنعان مكيّة وآخرين. لا يزال غاسبار، الذي ولد عام 1951 في الأشرفية، يذكر العروس التي احتضنته بصعوبة لضخامة فستانها، يوم كان طفلاً واصطحبه أهله إلى القرية لحضور عرس تقليدي. لم يكن الطفل يتردد كثيراً على القرية التي ظلت طرقاتها ترابية حتى 1970، عقاباً من زعماء بشري لأهاليها الذي يدينون بالولاء لمرجعية إهدن. جدّه، القاضي الياس، نزح لأسباب مهنية إلى بيروت، حيث أسّس عائلة كان من أفرادها والد أندريه، طبيب الأسنان إدوار.
يتذكّر مبتسماً التحاقه بحضانة «تهذيب الفتاة»، التي أسستها يومها راهبتان انشقّتا عن مدرسة «زهرة الإحسان» في الأشرفية. بعدها، قضى المراهق سنوات الدراسة الثانوية في «مدرسة الليسيه» (طريق الشام). هناك، قابل مسلمين للمرة الأولى في حياته، وخاض تجربة صاخبة كان محورها عشق الفتيات والعمل السياسي. كانت حادثة موت أخيه بصقعة كهربائية أمام عينيه وهو في السابعة من عمره قد دفعته إلى الانعزال والانغماس أكثر فأكثر في عالم الكتب. «في صف البكالوريا، كنت قد حفظت 1200 بيت شعر عربي عن ظهر قلب».
ترافقت المطالعة التي ذهب إليها بدافع شخصي، مع اندفاع وثورة استمدت بذورها من موسيقى «جيل البيت»: اعتنق الشاب الروك والبلوز كمظهر من مظاهر التمرّد على الأهل والمجتمع. سياسياً، تضافرت آثار نكسة الـ 67 مع التضليل الإعلامي الذي زاد من وقعها، مع حركة الاحتجاجات الطلابية التي هزّت العالم عام 1968، لمدّه بشحنة ثورية، تلقّفها طالب أكبر منه عمل على «تجنيده». هكذا، تبنى غاسبار قضايا العدالة والمساواة، ونظّم في مدرسته سلسلة من الإضرابات تضامناً مع نقابة المعلمين اللبنانيين، قبل أن يلتحق بـ «اتحاد الشيوعيين اللبنانيين» المنشق عن الحزب الشيوعي اللبناني. نشاط كلّفه غضب الوالد، الذي عاقبه بإخراجه من الليسيه وإلحاقه بمدرسة عينطورة الداخلية، التي نال منها شهادة البكالوريا. في عام 1970، انتسب غاسبار إلى كلية الحقوق في الجامعة اليسوعية، وإلى كلية الآداب في الجامعة اللبنانية (التي لم يكمل تحصيله فيها). استقلّ عن أهله، لأنّ الهوّة بين أفكاره وأفكارهم كانت قد اتسعت كما يشرح. هكذا، عمل بدوامات جزئية ليحصّل مصروفه، وأقام في أحياء شعبية. من المهن التي زاولها خلال تعليمه، موظفاً في بنك، أو أستاذاً في مدرسة خاصة، يتحدث بشغف عن عمله في «إذاعة وراديو إيران»، التي يعدّها مدرسة في الدقة لقّنته الكثير.
لم تدُم سنوات الأوهام اليسارية طويلاً: في أوائل السبعينيات، وبعد تنافس شديد حلّ محل الودّ بين «اتحاد الشيوعيين اللبنانيين» ومنظمتَي «لبنان الاشتراكي» و«الاشتراكيين اللبنانيين»، لفظ الاتحاد رمقه الأخير، بينما اندمج التنظيمان الباقيان ليكوّنا «منظمة العمل الشيوعي». لم يستسلم غاسبار مباشرةً. وفي محاولة أخيرة، أسّس مع صديقه جيلبير الأشقر عصبة تروتسكية منتسبة إلى الأممية الرابعة، لكنه سرعان ما فقد إيمانه «في الحتمية التاريخية، وزوال الظلم وحلول المجتمع العمالي». يستعيد أندريه تلك المرحلة المفصليّة من حياته: «لم أعد متأكداً أنّ النضال سيُفضي حتماً إلى حكم أكثر عدالة» كما يقول. ويشرح «كنت راديكالياً، ولم تلائم فوضى الشعارات الرائجة دقّتي في مقاربة القضايا السياسية. أليس من المثير ألا يكون لكلمة nuance (فارق تفصيلي أو إضافة تفصيليّة ـــــ التحرير) مرادف في اللغة العربية؟».
في عام 1974، كان غاسبار قد تحوّل، مع حفنة من الأصدقاء، منهم الكاتبة مي غصوب، من العمل السياسي إلى العمل الإنساني، فأداروا مستوصفَين في منطقة النبعة، وقادوا صفوفاً في محو الأميّة للكبار، إلى أن أصاب عنف الحرب صديقة الطفولة مي، التي سافرت للطبابة في بريطانيا. إثر تخرّجه، حاول التدرّج كمحامٍ، لكن الحرب كانت قد اشتعلت، فسافر إلى باريس، حيث عمل في مصرف براتب جيد أتاح له الادّخار للقيام برحلة طويلة طاف خلالها أنحاء الولايات المتحدة. في نهاية تلك الرحلة، لم يكن قد بقي في جيبه سوى 420$ حين اقترحت عليه مي أن يلتحق بها في لندن لتأسيس مكتبة عربية تخلو عاصمة الضباب منها. وافق.
عزل نفسه مع حبيبته سلوى، التي ستصبح لاحقاً زوجته ووالدة ابنتيه، في جزيرة يونانية، حيث «درس» كل ما فاته في الفلسفة ـــــ هو الضليع في الشعر ـــــ استعداداً لتسلّم مهمّاته في تأسيس المكتبة. بمساعدة ذويهما المادية، تمكّن الصديقان من إطلاق مشروع العمر عام 1979 من لندن: مكتبة «الساقي»، التي لم تلبث أن توسّعت لتشمل دار نشر إنكليزية ثم عربية في بيروت، عام 1991. بعد رحيل مي المفجع عام 2007 إثر اعتلال صحي، ازداد الضباب في مدينة الضباب. ابتاع الصديق حصة رفيقته الراحلة لتصبح «الساقي» مؤسسة عائلية يديرها «فريق كفوء في لندن من ضمنه زوجتي وابنتي، بينما آثرت العمل من مكتب بيروت، هرباً من طيف مي المتعشّش في كل زاوية من زوايا مكاتبنا في لندن، ففي فراقها ألم يصعب عليّ تجاوزه حتى اليوم».
سنوات الإقامة المتقطّعة في بيروت خلال الثمانينيات، أتاحت لغاسبار إتمام تدرّجه، فهو رسمياً محام في الاستئناف. أتاحت له سنوات الحرب خوض السياسة والعمل الإنساني، فهو حالم. أتاح له حس المغامرة عيش مرحلة شباب صاخبة، فهو مندفع نحو الحياة. هو كل ذلك، لكنه، في المقام الأول والأخير، عاشق للكتب: قرأها، كتب بعضها، ونشر ولا يزال، الكثير منها... كل هذا عبر إدارته مؤسسة رائدة نجحت في التطوّر والحفاظ على اسمها في عالم النشر.


5 تواريخ

1951
الولادة في الأشرفية

1968
انضم إلى «اتحاد الشيوعيّين اللبنانيّين»

1974
تخرّج من كلية الحقوق في الجامعة اليسوعية وانتقل من النضال السياسي إلى العمل الإنساني مع بداية الحرب

1979
أسّس مكتبة «الساقي» مع صديقته الراحلة مي غصوب في لندن

2011
أصدر الطبعة الثالثة من كتابيه «الحقيقة أغرب من الخيال» و«ألغاز من عالمنا» عن «دار الساقي»