لا مكان للعاطفة والانطباعات في عالم حازم المستكاوي (1965). تجاربه تستند إلى عملية عقلية مركزة تُحلل الشكل إلى عناصر منفصلة، تبحث في جوهره، وتتبع العلاقات العميقة والحراك غير المنظور في بنية الكتلة واحتمالات تشكّلها. الحياد غير وارد في أعمال هذا التشكيلي المصري الذي تحتضن «غاليري كريم فرانسيس» في القاهرة أحدث معارضه.
ما ينجزه لا يحيلنا إلى مرجعيات في ذاكرتنا البصرية. الشكل يمثل نفسه وحقيقته، بلا معان مستترة أو تأويلات رمزية. هذه المكاشفة الجريئة تأتي من المنهجية الفكرية الواضحة لعمليات التخطيط والتصميم والتنفيذ. لذلك يتطلّب فعل التلقي وعياً بصرياً خاصاً، إذا شئنا الإمساك بالمفردات والطبقات التي تؤكد المعنى، وتتيح التقاط الرحلة التصاعدية لمتواليات هندسية، وزوايا قائمة متكررة، وصولاً إلى الانسجام الكلي بين الشكل الوليد وفراغه.
لا يأخذ تعامل المستكاوي مع مفهوم الاختزال بعداً كلاسيكياً عرفناه في النحت التقليدي، لأنه هنا لا يطال فقط ما هو زائد عن الكتلة بل الكتلة نفسها. هي مرحلة متقدمة وقاسية لإقصاء الشكل بمعناه الطبيعي، وتقديم اقتراح بصري يندمج فيه المنحى العلمي للخامة، والمفهوم الإنشائي في اللغة الهندسية، إضافة إلى اللغة المفهومية conceptual. ينقلب الفنان الشاب على البنى البصرية التقليدية عبر سبر الحركة الداخلية للشكل، والإدراك العقلي للعلاقات البنائية لمجموعة الكتل التي يتكوّن منها الشكل العام. هكذا تبدو أعماله سلسلة قراءات بصرية خارجة من الزمن الراهن، تبحث في احتمالات قابلة للنمو والتطور بشكل لا حدود له.
وها هي تجارب حازم المستكاوي التي لفتت الانتباه على نطاق عالمي، تعود إلى «غاليري كريم فرانسيس» في القاهرة بعد غياب سبع سنوات. 19 عملاً تتنوع بين المجسمات النحتية، والرسوم الثنائية والثلاثية الأبعاد هي قوام معرض «حول المساحات: أشياء منهجية وقضايا الاختزال». يقدّم الفنان أعمالاً تعود إلى تواريخ مختلفة، متبعاً منهجه الاختزالي في الفنون البصرية عبر وضوح فكري، واشتغال يدوي يتّسم بالدقة والتركيز لخلق تلك الإنشاءات التي يستخدم فيها خامات الكرتون وأنواعاً مختلفة من الورق والغراء. هذه الخامات البسيطة واليومية تأخذ هنا دوراً جوهرياً كوسيط بصري وتقني قادر على خلق محفزات وتأثيرات لتأكيد الفكرة وإظهار التنوع والغنى الشكلي والإيقاعي لتلك الإنشاءات والتكوينات.
في «الأسطوانة» (كرتون وورق) يظهر ذلك الإمعان في هدم الصورة النمطية للأشياء. الهدم لا يأخذ بعداً بصرياً فحسب، بل يمتد إلى محاولة خلق مساحات جديدة في آليات التفكير.
يضبط هذا الفنان المصري أعماله وفق إيقاع مدروس وصارم. المنهجية والعقلانية والدقة في التنفيذ تمنح التجربة استقلالية فريدة. ومع إحالة الأشكال الهندسية والزوايا إلى مساحات محددة، سيبدو العمل جريئاً وثابتاً في فضائه الخاص الذي يولد وينمو مثل جلده. لا تتعامل الأعمال مع فضاء مُنجز، بل إنّ هذا الفضاء يتطور عضوياً مع الشكل الذي يأخذ مشروعية وجوده من ذاته ومراحل صنعته.
التناسق بين الأشكال النافرة والمحفورة، الاحتمالات غير المحدودة للعلاقة بين التكوينات، المهارة الحرفية، عناصر تندرج في سياق إنتاج الفنان لأبجديات ذهنية تؤصل لمشروعه. لنسمعه يقول: «ترتبط مراحل البناء وتكوين الأفكار عندي بعملية استدعاء ودراسة وتحليل لتاريخ الفنون والأفكار الهندسية في عمر الثقافة الإنسانية منذ الفن المصري القديم، مروراً بفنون التاريخ الإسلامي وفنون وفلسفات أوروبا الحديثة في القرن العشرين، ما يسهم في إثراء الأبجدية البصرية الخاصة بي، ويسهم في بناء الفكر العام والأفكار المتولدة عنه في الأشكال والأشياء المنتجة فنياً».
أعمال حازم المستكاوي، تبدو متقدمة على وعي بصري عام ورائج. لكنها تخبئ في عمقها نظرة مغايرة لرؤية العالم، وتمارين عملية على معاصرة ـــ حقيقية وغير زائفة ـــ للتحولات العميقة في الفكر والعلوم والمعلومات.


حتى 13 الجاري ــــ «غاليري كريم فرنسيس»، القاهرة.
للاستعلام: 0020223916357
www.karimfrancis.com