عن دار «آكت سود»، صدرت أخيراً الترجمة الفرنسيّة لـ«الكرنك» (1974)، واحدة من أبرع الروايات السياسيّة لنجيب محفوظ. بعد عام واحد فقط على وفاة جمال عبد الناصر، كتب صاحب نوبل هذا النص الذي يتطرّق فيه، بمرارة مكبوتة، إلى تجربة «الاشتراكية المصرية».تقع الأحداث في قاهرة نهاية الستينيات، في أوج فترة الحماسة القومية، قبل هزيمة 1967. إسماعيل الشيخ، وزينب دياب، وحلمي حمادة، يتردّدون على «الكرنك»، وهو مقهى صغير في وسط البلد. يلتقون هناك بعد محاضراتهم، فيتغازل إسماعيل وزينب، ويتحدّث الثلاثة في السياسة. «تاريخهم يبدأ بالثورة»: من دونها ما كانوا ليحلموا بدخول الجامعة. إسماعيل يعيش مع أسرته في «حجرة وحيدة» في حارة دعبس في الحسينية. أبوه يعمل في مطعم كبدة، وأمه «بياعة سريحة»، وهو الوحيد بين إخوته الذي «دخل مدارس»، مثل زينب ـــــ جارته في الحارة. لم يحم ارتباط هؤلاء الطلبة بالثورة من تنكيل «النظام الشعبي» الناصري بهم، واعتقالهم وتعذيبهم واغتصابهم واغتيالهم، فتحول بعضهم إلى مخبرين. يعقد صاحب «أولاد حارتنا» الحبكة بحنكة. الراوي أيضاً من محبّي الكرنك. يرتاده ليري قرنفلة، الراقصة الشرقية ذات «الروعة الغامضة» و«الأسى المؤثر»، التي كان يحبها في الأربعينيات. هو في الخمسين من عمره، عمر محفوظ تقريباً عند كتابة هذا النص، وهو مثله موظّف من الطبقة المتوسطة. يؤمن بالثورة، أو بتعبير آخر، يحاول طمأنة نفسه. ولنا أن نتخيّل وقع الصدمة عليه، عند اختفاء الشبان الثلاثة، هو الذي يكنّ احتراماً أكيداً للضباط الأحرار. صحيح أنّه سرعان ما أُطلق سراحهم، لكنهم فقدوا قدراً لا بأس به من حماستهم، وما لبثوا أن اختفوا للمرة الثانية، ثمّ عادوا منكسرين. وقبل أن تتاح له الفرصة لأن يفهم ما جرى لهم، اختفوا للمرة الثالثة ولم يعد منهم سوى اثنين، فحلمي مات تحت التعذيب. ما الذي حدث؟ لا يجيبان بشيء إلا باسم خالد صفوان ـــــ أحد المسؤولين في أمن الدولة.
لن يعرف الراوي شيئاً عمّا دار من أحداث داخل المعتقل إلا بعد وقت طويل، عندما يلتقي مصادفة بإسماعيل ثم زينب، ويقرر الاثنان أن يحكيا له قصتهما. عند اعتقالهما للمرة الثانية، اعترف إسماعيل بقيامه بأنشطة سياسية وهمية، وذلك تحت التهديد بالتحرّش بزينب، كذلك وافق على أن يصبح من «أصدقاء النظام». زينب فعلت الشيء نفسه بعدما تعرّضت للاغتصاب. بعد خروجهما من السجن، دعاهما حلمي إلى اجتماع سري لتوزيع منشورات ضد الحكومة. قررت زينب أن تبلّغ عن حلمي متصوّرة أنها بذلك ستحمي إسماعيل. لم تكن تعرف أنها في الحقيقة كشفته أمام أمن الدولة كمخبر لا يمكن الاعتماد عليه؛ وأنّ ضميرها سيتحمّل إلى الأبد مسؤولية موت صديقهما.
قرنفلة، إسماعيل الشيخ، زينب دياب: أسماء هذه الشخصيات هي أيضاً عناوين أجزاء الرواية الأولى. الجزء الرابع والأخير يحمل عنوان «خالد صفوان» الذي طرد من عمله في أعقاب هزيمة 1967 ليحشر نفسه في «الكرنك»، معلناً رفضه «للاستبداد والديكتاتورية والعنف الدموي»، بأسلوب يمهّد لخطاب النخبة الساداتية.
مثل «يوم قتل الزعيم» (1985) ـــــ وهي هجوم شرس على العهد الساداتي ـــــ تعدّ «الكرنك» من أبرع أعمال محفوظ السياسية، وأنجحها في التعبير عن قلقه على مصير بلد كان يريده أكثر حرية. لم يستسلم لليأس، ولم ينه «الكرنك» نهاية تشاؤمية صرف. أدخل فيها شخصية جديدة، لطالب وسيم، يقول له الراوي: «لعلّ أيامكم تكون أفضل». هذه النهاية المتفائلة مضى بها بعيداً الفيلم المقتبس عن الرواية (إخراج علي بدرخان، مع سعاد حسني ونور الشريف)، إذ نرى فيه مرة أخرى زينب وإسماعيل معاً، وسط متطوّعين آخرين يستعدّون للدفاع عن الوطن. ولا يملك القارئ عند مطالعة هذا النص إلا أن يحلم بتلك الرواية التي لم يكتبها محفوظ. فقد استخلص في«الكرنك» روح الناصرية، وفعل الأمر نفسه في «يوم قتل الزعيم» عن عهد السادات، لكن الوقت لم يتح له ليروي لنا «رؤيته» عن حكم مبارك، ونظرته إلى هذه الحقبة من تاريخ مصر الحديث.