«لا أحبُّ أن أشْهرَ بطاقة الهولوكوست النازيّة، لكنّي الآن... أقول إنّ أبي الراحل كان في آوشفيتز؛ أمّي الراحلة كانت في مايدانك؛ كلُّ أفراد عائلتي، من جانبيْ أبي وأمّي، كانوا في معسكر آوشفيتز، وأبيدوا... ولا أجد أمراً أحقرَ مِن استخدام معاناتهم واستشهادِهم من أجل تبرير استخدام التعذيب والوحشيّة ضدّ الفلسطينيين.»
لعلّ هذا الاقتباس هو أشهر ما عُرف به نورمان فنكلستين لدى الجمهور العربيّ، الذي تناقل على «يوتيوب» تصويراً متكرِّراً لتلك المواجهة بينه وبين طالبةٍ في جامعة «واترلو» كانت تذْرف ـــــ على حدّ وصفه ـــــ «دموع التماسيح» على ضحايا الهولوكوست، من غير أن تنبسَ ببنت شفةٍ إزاء اضطهاد إسرائيل للشعب الفلسطينيّ. هذا الاقتباس يلخّص جانباً واحداً، وإنْ رئيساً، في عمل فنكلستين، وقد عبّر عنه جزئياً في كتابه الأشهر «صناعة الهولوكوست: تأمّلاتٌ في استغلال المعاناة اليهوديّة» (2001 ـــــ دار الآداب). لقد استَخدمت المنظّماتُ الصهيونيّة، والأميركيّةُ، الهولوكوست سلاحاً، لا لحرْف الأنظار عن التطهير العِرقيّ وسياسةِ الأبارتهايد الإسرائيليّة ضدّ الشعب الفلسطينيّ منذ 1948 فحسب، بل لتحريض العالم «الحرّ» لاحقاً على غزو العراق، وإيران، ولبنان، ورام الله وغزّة وحصارها، لأنّ صدّام حسين، وأحمدي نجّاد، وحسن نصر الله، وياسر عرفات وخالد مشعل «هتلراتٌ جددٌ»، يمثّلون تهديداً وجودياً لإسرائيل، موطنِ الناجين من الهولوكوست. بل إنّ فزّاعة الهولوكوست، على ما أوضح فنكلستين لاحقاً، نُصِبتْ في وجه حقوقيّين دوليّين كريتشارد غولدستون الذي يقارنه القادةُ الإسرائيليّون بهتلر من أجل نقض تقريره الموضوعيّ عن مجازر غزّة بين نهاية 2008 وبداية 2009.
غير أنّ ثمة جوانبَ أخرى لا تقلّ شهرةً في أبحاث فنكلستين، وكان فيها طليعياً في ما يُعرف بـ«دراسات الهولوكوست». أهمُّ هذه الجوانب توثيقُه الغزيرُ لكيفيّة ابتزاز المنظّمات الصهيونيّة لأموال أوروبا، أو ما سمّاه «تنفيض جيوب أوروبا»، بدعوى تعويض الناجين من الهولوكوست ممّا تعرّض له أهلهم وأقاربُهم هناك أيّام الحكم النازيّ.
والجانب الثالث المهمّ من عمله ملاحقته الدؤوبة لكلّ عملٍ بحثيّ أو تصريحٍ يصْدر عن حلفاء إسرائيل، ونقضُ ذلك بدقة تقارب الوسوسة (قد تتعدّى هوامشُ بعض أوراقه مئة وخمسين). والحال أنّ أطروحة الدكتوراه التي تقدّم بها إلى جامعة «برنستون» هي التي فتحتْ أعينَ أعدائه الصهاينة عليه؛ فقد بيّن بالتفصيل أنّ أحد أكثر الكتب الصهيونيّة مبيعاً في الولايات المتحدة، ألا وهو «منذ زمن سحيق» لجوان بيترز، قائمٌ على التشويهات والانتحالات والاقتباسات الخاطئة. ويواصل فنكلستين نقدَه لهذا المنحى التزويريّ في الدراسات الأكاديميّة حتى اليوم. وقد قام قبل أعوامٍ بمواجهةٍ حادّةٍ مع الكاتب الصهيونيّ البغيض ألان ديرشوويتز (أستاذ القانون في هارفرد)، متّهماً إيّاه بأنّه انتحل في عمله «دفاعاً عن إسرائيل» (2003) أقساماً كبيرةً من كتاب بيترز (المنحول أصلاً!) بدلاً من أن يعود إلى المصادر الأصليّة التي اقتبستْ بيترز منها. بل يتّهمه بأنّه نقل عن تلك الكاتبة الأخطاءَ ذاتَها (بما في ذلك تعبيرٌ توهّمت أنه لجورج أورويل)، وأساء النقل عن كتابٍ لبني موريس، وتجاهل كلّ التقارير الدوليّة (والإسرائيليّة غير الرسميّة) التي تؤكّد أنّ إسرائيل مارست التعذيبَ وقتلت المدنيين في جنين عمداً. وهذه المواجهة التي لم تطاولْ ديرشوويتز وحده بل قضّت أيضاً مضجعَ مزوّري التاريخ من أنصار إسرائيل، دفعتْ بالأوّل إلى تحريض جامعة «ديبول» على فنكلستين الذي كان يدرِّس فيها، فأعفته من منصبه خشية إغضاب اللوبي الصهيونيّ. وها هو صديقي ورفيقي نورمان بلا عملٍ منذ سنوات في «بلد الحريّة»، أميركا.
من يقرأْ فنكلستين، يقفْ على شخصيّتين أساسيّتين طبعتا أخلاقيّاتِه المهنيّة والسياسيّة: أمّه الراحلة ماريلا، ونوام تشومسكي. أخذ عن أمّه، الناجيةِ من معسكرات الاعتقال النازيّة، كراهيةَ الظلم والتعذيب، ونبذَ الحروب (يَذْكر أنها كانت تشيح بوجهها عن التلفزيون كلّما ظهرتْ مشاهدُ من الحرب على فييتنام)، واعتبارَ ضحايا العدوان من أيّ مكانٍ «ضحايا هولوكستيّة». وتأثّر بمعلّمه وصديقه الأكبر تشومسكي في الدقّة البحثيّة، وتنوّعِ المصادر، وحسِّ العدالة... وإنْ كنتُ أعتقد أنه تأثّر به أيضاً في أمريْن لا أشاطرهما الرأيَ فيهما بكلّ تواضعٍ واحترام: عدم تبنّي خيار الدولة الديموقراطيّة العلمانيّة الواحدة على كامل فلسطين التاريخيّة، وعدم تأييد مقاطعة إسرائيل بمختلف الطرق حتى تنصاعَ للقانون الدوليّ.
وإنصافاً لفنكلستين، ينبغي القولُ إنّ سلبيّته تجاه الدولة الديموقراطيّة الواحدة لا تستند على الأرجح إلى موقفٍ مبدئيّ، بل لأنه يعتقد أنها حلٌّ غيرُ عمليّ: فهو ما زال يؤمن بواقعيّة «حلّ» الدولتين، مع أنّ إسرائيل (في رأيي) قَضَتْ عبر المجازر وتهويدِ القدس وتكثيفِ الاستيطان على مقوِّمات أيّ دولةٍ فلسطينيّةٍ مستقلة ذاتِ سيادة على حدود 67؛ فضلاً عن أنّ «حلّ» الدولتين غيرُ عمليّ بالمعنى الاستراتيجيّ العميق للكلمة، لأنّه لا يحلّ مأساة اللاجئين (وهي جذرُ المشكلة الفلسطينيّة) ولا مشكلةَ التمييز العنصريّ في حقّ فلسطينيّي الـ48. وفي ظنّي أنّ دعوة فنكلستين وغيرِه من مثقفي «الغرب» التقدّميين لدولةٍ ديموقراطيّةٍ علمانيّةٍ واحدة على كامل فلسطين التاريخيّة المحرّرة من الاحتلال والتمييز العنصريّ (لا إلى المساواة على أساس المواطَنة داخل أراضي فلسطين الـ48 وحدها)، ولحقّ عودة اللاجئين إلى كلّ فلسطين (لا إلى أراضي ما يسمّى «السلطة الفلسطينيّة»)، ليست ما ينبغي أن نتوقّعَه من هؤلاء المثقفين فحسب، بل تُعزِّز في ذاتها أيضاً فرص نجاح هذا الحلّ الأخلاقيّ العادل، على الأقلّ من خلال ترويجه في وسائل الإعلام والأوساط الأكاديميّة والناشطين في الغرب.
أمّا عن مقاطعة إسرائيل، فإنّ الرجلين يتشاركان الرأيَ في تأييد مقاطعة منتجات المستوطنات وشركاتِِ الأسلحة الغربيّة التي ترسل منتجاتِها إلى إسرائيل. لكنّهما يَجْهران بعدم تأييد مقاطعة إسرائيل أكاديمياً. وحجّةُ فنكلستين أنّها ستجرّ إسرائيلَ وأنصارَها إلى الحديث عن قمع الحريّات الأكاديميّة، «فيضيع موضوعُ الاحتلال سريعاً». وبذلك، يتناسى صديقي النبيه نورمان أنّ المؤسّسة الأكاديميّة (والطبّيّة...) جزءٌ لا يتجزّأ من نظام الأبارتهايد، وهي تساعد الاحتلال. كذلك يتناسى أنّ معظم الأكاديميين الإسرائيليين لم يجْهروا حتى اليوم بمعاداتهم للاحتلال والأبارتهايد الإسرائيلييْن بل يتمتّعون بمزاياهما!

رئيس تحرير مجلة «الآداب»



مع المقاومة

تصدّى نورمان فنكلستين لكلِّ من يؤبلس المقاومة، في أيّ بلدٍ كان، بذريعة «الأصوليّة» أو «الإرهاب». ومن أشهر مواقفه في هذا المجال دعمُه الحازم لـ«حزب الله» في مقاومته. ولا يمكن أن ننسى يوم وقف الكاتب الأميركي عام 2008 أمام أضرحة شهداء قانا الثانية، وصرّح أمام الكاميرات بأنّه قد يكون على إسرائيل أن تُمنى بهزيمةٍ ثانيةٍ لكي تكفّ عن عدوانها وغرورها.