إذا كانت المعاناة والاضطهاد وأحزمة البؤس وغيتوات التهميش عناصر أساسية لتكوين بيئة مناسبة لولادة مشروع راب يحمل مبرِّراته، فطبيعي أن ينتج الشباب الفلسطيني في لبنان التجارب الأفضل في هذا المجال. هكذا، بين ظروفهم الحياتية في المخيمات، وتأثرهم بما يتعرّض له أبناء شعبهم في الأراضي المحتلة، وجد أعضاء فرقة الراب الفلسطينية «كتيبة ـــــ 5» (من مخيّم برج البراجنة في بيروت) المحفّزات الكافية لإطلاق تجربتهم الفنيّة الاحتجاجية والتحريضية.
بعد أكثر من سنتين على إصدار باكورتها «أهلا فيك بالمخيمات» التي لاقت نجاحاً كبيراً في لبنان وخارجه، تعود «الكتيبة» إلى دائرة الضوء مع ألبومها الثاني «طريق واحد مرسوم» (إنتاج الفرقة). وقبيل انقضاء 2010، أطلق «أسلوب» (لقبه السابق «سي 4») و«مولوتوف» و«عبد الجبار» و«شاهد عيان» (لقبه السابق «موسكو») و«جزار» عملهم الجديد خلال حفلة أحيوها بالتعاون مع مجموعة موسيقيّين في «مسرح بيروت».
من المعروف أن أيّ تجربة فنية محكومة بالتقدُّم أو التراجُع أو المراوحة عند المكان الذي بلغته. وعموماً، عندما يكون إنتاجها ما قبل الأخير عالي الجودة (ألبوم «أهلا فيك بالمخيمات» في هذه الحالة)، يصبح التراجع في الجديد مبرراً ولو غير مستحب. كذلك تُعدّ المراوحة إنجازاً، فيما يأتي التقدُّم بمثابة تحدٍّ كبير. انطلاقاً من هذه المعادلات، يمكن القول إن «كتيبة ـــــ 5» تحدّت نفسها واستطاعت إنجاز عملٍ يضعُها على درجة أعلى من التي بدأت منها. أسباب هذا النجاح كثيرة، أبرزها تراكم الخبرة في صناعة الراب (وخصوصاً لناحية الأداء)، والنضوج الفكري (ما يخدم المعنى في النصوص)، والشهرة النسبية التي زادت من ثقة أعضاء الفرقة بأنفسهم، وحملتهم مسؤولية مضاعفة تجاه جمهورهم. وهذا التقدّم الملحوظ في مسيرة الفرقة، يظهر خاصة في الحفلات، في الوقت الذي يمثّل فيه الأداء الحيّ العنصر الأهم في فن الراب. الطاقة التي باتت تتمتع بها الفرقة، والحنكة في تبادل الأدوار بمهنية عالية في تقديم أغانيها، تضعان «كتيبة ـــ 5» في مستوى متقدّم جداً عربياً، حتى من الناحية التقنية، ما دامت المواضيع وطريقة (كما مشروعية) تناولها عنصر قوّة لا تتمتع به الكثير من الفرق.
في سي دي «طريق واحد مرسوم» (مطروح للبيع في مقهى «ة ـــــ مربوطة» فقط)، تتابع «كتيبة ـــــ 5» رسالتها في نقل معاناة الفلسطينيين في المخيمات اللبنانية، وتواصل هدفها في توعية قاطني المخيمات (من مؤامرات الجمعيّات مثلاً)، وتوجيه الجيل الجديد (الفلسطيني أقله) إلى خط المقاومة، والتأثير في البيئة غير الآبهة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي أو بمعاناة الفلسطينيين في لبنان. مِن الإضاءة على المشاكل اليومية، المعيشية والاجتماعية، الصحية والتربوية وغيرها («عالطريق»)، إلى فضح ممارسات المنظمات الدولية («نكهة صهيونية» الموجّهة إلى منظمة الـ«أونروا»)، ومعاناة الفلسطيني عموماً («زروبه 12»)، ومأساة أحداث مخيّم نهر البارد («بعد في ناس»)، تنقل «الكتيبة» العدّة إلى فلسطين، فتتضامن مع غزة المقاومة وتحيّي شهداءها الـ1400 («تشرق صواريخ»)، ثم تهاجم جدار الفصل العنصري («هدْم الجدار»)... ثمة أغنية واحدة تخرج عن هذا السياق هي «إنتو غنيتو»، إذ تتناول تجربة الفرقة مع «إنكوغنيتو» التي تولت إنتاج «أهلا فيك بالمخيمات» وتوزيعها. تجربة لم تكن وردية، حسبما نفهم من عنوان رسالة الشباب إلى القيّمين على الشركة.
هذا عموماً مضمون الكلمة التي تقولها «كتيبة ـــــ 5» في ألبومها. أما أشكال هذه الكلمة فثلاثة: بالدرجة الأولى، النص الخاص بثقافة الراب. بعده يأتي التسجيل الصوتي من الأرشيف ويشمل ثلاث محطات هي «المنفى» (أبو إياد)، و«أنت لا تستطيع» (أحمد ياسين)، و«وحْل الأرض» (مهدي عامل). أما الشكل الأخير فهو الشعر الحديث عبر قصائد الشاعر الشريك في مشروع «الكتيبة»، عبد الرحمن جاسم، الذي شارك في الألبوم الأول.
من جهة ثانية، لم تضيِّع الفرقة البوصلة في اختيار المواضيع التي تعالجها. هي لا تتطرق إلى قضايا خاصة بالمجتمع اللبناني إلا بقدْر ما للأخيرة من تأثير في أحوال الفلسطينيين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. من هنا، فتكاملها مع زميلتها اللبنانية، فرقة «طفّار»، يوفّر تغطية كاملة للمسائل الاجتماعية والسياسية في قضيتَيْن محوريتَيْن: معاناة الفلسطينيين في المخيمات، ومعاناة فئة من اللبنانيين داخل الوطن، إضافة إلى المسألة المشتركة: مقاومة المشروع الإسرائيلي.
التزام «كتيبة ـــــ 5» يتلخص في عبارة من أغنية «بهَدّي بفنجان قهوة» التي يُختتم فيها الألبوم: «فلسطين لن نخون».



وحدة إسناد!

موسيقياً، اعتمدت فرقة «كتيبة ـــــ 5» في «طريق واحد مرسوم»، كما في ألبومها، هامشاً من النغمة المرطِّبة لرتابة الراب. هكذا خصّصت لمعظم الأغنيات الواردة في الألبوم لحناً بسيطاً، يُستهَل به ويتكرّر في الخلفية أو يعتمد كترجيع لافتٍ بين المقاطع، إضافة إلى مداخلاتٍ موسيقية تلوينية هنا وهناك. واستدعت «الكتيبة» لهذا الغرض «وحدة إسناد» (كما تسمّي الموسيقيين المشاركين في التسجيل) مؤلفة من حسين قمح (درامز)، محمد همدر (إيقاعات)، عبد قبيسي (بزق)، عماد حشيشو (عود)، إضافة إلى المشاركين الأساسيين في هذا الجانب، وهم نيسم جلال (فلوت وناي)، فِل نكد (باص) ويان بيتر (عود).