طهران ــ إنّها مفارقة تستحقّ التأمل حقاً. أكثر أفلام جعفر بناهي شعبيةً في إيران هو فيلم «الدائرة» (2000) الذي ينتقد مجتمعاً يمارس أبشع أنواع الظلم والاستعباد بحق المرأة. هذا المحور الاجتماعي هو ما احتفت به الأوساط الفنية الإيرانية بمختلف تياراتها المعارضة والموالية. وهو الأمر ذاته الذي ينطبق على كلّ أفلام بناهي. أما الحكم الصادر بحقه، فلم يكن بسبب فيلم بقدر ما كان بسبب موقف سياسي إشكالي.
في مرافعته أمام القضاء الإيراني قبل أشهر، قال بناهي: «طوال مسيرتي السينمائية، قلت وأكرر إنّني مخرج متخصص في القضايا الاجتماعية، ولست مخرجاً سياسياً. القضايا الاجتماعية هي هاجسي، وهذا ما يجعل الطابع الذي يصبغ أفلامي طابعاً اجتماعياً وليس سياسياً. أعتقد أنّ السينما السياسية تفتقر إلى البعد الفني، وهي أيضاً سينما حزبية وشعاراتية».
تُرى هل أدرك القضاء الإيراني هذه الرسالة متأخراً، مما دفع محامية المخرج، فريدة غيرت إلى الإعلان منذ أيام عن احتمال إلغاء الحكم الصادر بحق بناهي في جلسة الاستئناف المقبلة؟ أم القضاء الإيراني لن يعود عن حكم ينتمي الى القرون الوسطى، بحق واحد من كبار السينما الإيرانية؟
مع «البالون الأبيض» (1995 ـــــ 24 /1، س 8)، كشف بناهي عن شخصيّة فنيّة فذة جديدة في إيران. يكفي أن نشير إلى عدد الجوائز التي نالها الفيلم، مثل «الكاميرا الذهبية» في «مهرجان كان»، وجائزة النقاد في الدورة ذاتها، والجائزة الأولى في «مهرجان طوكيو».
في فيلمه الروائي الثاني «المرآة» (1997)، يعاود بناهي التركيز على عفوية الحياة اليومية، من خلال طفلة تحاول العودة بمفردها إلى منزلها. خلال رحلتها، تتفاعل مع حكايات المسافرين وقصصهم. وفي الرهان على العاطفة الحقيقية، تظهر موهبة بناهي. إذ إنّ أفلامه تهتم بالتعبير عن قضايا راهنة من خلال أفراد يتمتّعون بقدرة عالية على التعبير. وفي العفوية، يكون أيضاً الرهان على تضامن المشاهد، فالتقنيات السينمائية هي عنصر من مجموعة عناصر لا ينبغي لها أن تطغى على التفاصيل الدقيقة في سلوك الأفراد.
ومن المعروف أنّ الإضافة الأساسية التي قدمتها السينما الجديدة في إيران ـــــ وبناهي أحد أقطابها ـــــ تتمثل في التركيز على السلوك الفردي في عالم مأزوم. وهذا ما نلحظه في فيلم «الذهب القرمزي» (2003 ـــــ 25 /1، س 8)، وهو ثمرة تعاون بين عباس كياروستامي وبناهي. البطل حسين بائع البيتزا لا يختلف كثيراً عن بطل «طعم الكرز» الذي يستنجد بالآخرين لوضع حدّ لحياته. بل إنّه يبلغ مستوى من الإرادة، يجعله قادراً على القتل والانتحار في آن. الفيلم يقدم صورة بانورامية عن حياة طهران وعبثيتها، تندر مشاهدتها في فيلم آخر: الزحام والتنافر الطبقي الحادّ، وتجاهل معاناة آلاف المواطنين العاديين...
غير أن الأخطر من كل هذا وذاك، يتجسّد في السخرية التي يتعرّض لها البطل، إذ إنّه ينقل شرائح البيتزا الى زبائن يسهمون جميعاً في تصاعد السخرية والألم: رفيق من رفاقه في حرب السنوات الثماني يعاني آثار الأسلحة الكيماوية. ثري إيراني عائد من أميركا، يطلب من حسين أن يأكل شريحة البيتزا التي طلبها لزوجته التي هجرته. وفي المرة الثالثة، يحاصر حسين في مبنى أقيمت حفلة في طبقته الثالثة، وتسعى الشرطة إلى اعتقال مغادري الحفلة.
الفيلم باختصار يقدّم نظرة عميقة إلى معاناة الفرد في مواجهة مجتمع يحكم عليه الخناق، من دون أي إسقاطات أيديولوجية. التاجر الثري مثلاً هو الأكثر حميمية مع البطل. أما الشعور بالإهانة فيكاد يكون وباءً عاماً لا يقتصر على المجتمع الإيراني فحسب. ألم يعترض بناهي على تسجيل بصماته في مطار نيويورك في عام 2000، خلال رحلة له من هونغ كونغ إلى أميركا الجنوبية؟ كان هذا إجراءً أميركياً اقتصر على الإيرانيين، فرفضه بناهي وتسبب في طرده من أميركا حينذاك.
أما فيلم «تسلل» (2006 ـــــ 26 /1، س 8)، الحائز «جائزة الدب الفضي» في «مهرجان برلين»، فترصد فيه الكاميرا الحالات النفسية التي ترتسم على وجوه الشخصية الرئيسية، ولو كانت وسط آلاف الأشخاص الذين جاءوا لحضور مباراة المنتخب الوطني.
سينما بناهي تُختصر بجملة واحدة: إنّها شديدة الإخلاص لقضايا الإنسان في تفاصيلها المؤثرة، بعيداً عن أي إسقاط أيديولوجي أو مصادرات فكريّة مسبقة.