تهتم الموجة الإيرانية الجديدة بالواقع وتصوّراته، وتحاول التقاط انعكاساته على عدسة الكاميرا. لكن هناك علاقة مميزة بين الواقع الإيراني في السينما والخيال، إذ يُبقي المخرجون الذين ينتمون إلى هذا التيار خيطاً رفيعاً بينهما. الواقع الإيراني الاجتماعي والسياسي هو ما أثّر على ذلك بالتأكيد. وفيما انتشرت الرومانسية في الفن بعد انقلاب 1953 وإطاحة محمد مصدّق وتنصيب الديكتاتور محمد رضا بهلوي، فرضت الثورة الإيرانية عام 1979 تغييراً في النظرة إلى الفن تميّزت بالواقعية.من ناحية أخرى، تصعب مقارنة الواقعية الإيرانية بالواقعية الاشتراكية التي سادت الاتحاد السوفياتي، إلى جانب الاختلاف الإيديولوجي، للموجة الإيرانية خصوصيتها، وعلاقتها مع إبقاء مسافة مبهمة من الخيال أحياناً. لكن بعض النقاد لاحظوا سمات مشتركة مع الواقعية الإيطالية الجديدة، كالتصوير في مواقع أغلبها عامة وفقيرة، من دون اللجوء إلى استوديوهات، واستخدام فنانين هواة، فيما تظهر الشخصيات مكافحة في حياتها اليومية.
عمل عباس كياروستامي من هذا المنطلق على منح خصوصية لأعماله ميّزته عن باقي الأسماء في الموجة الجديدة، ومنحته أبعاداً أخرى، وموقعاً خاصاً من الجدل الدائر. في «لقطة مقربة» (1990 ـــــ 19 /1، س 8)، يذوب الروائي في التسجيلي. وفي «طعم الكرز» (1997 ـــــ 21 /1، س 8) الذي نال سعفة «كان» الذهبية، تصبح المسألة أكثر راديكالية. تقنياً، جرّد كياروستامي العمل وصولاً إلى المينيمالية، وغيّب الأسباب والدوافع، وركز على الرحلة ذاتها في بعدها الفلسفي. شخصية بادي غامضة وبعيدة عن المشاهد. ورغم مهمته المرتقبة وهي الانتحار، وتركيز الكاميرا على وجهه، إلا أن خدعة كياروستامي هي المحافظة على مسافة بين شخصيته والمشاهد، بين الأحداث السينمائية المتخيّلة وواقع المشاهد العاطفي التواق إلى إطلاق الأحكام. إن التوق إلى البقاء في تلك المنطقة المبهمة هو ما يؤكده في المشاهد الأخيرة الصادمة من الفيلم. جعفر بناهي قدم في العام نفسه «المرآة» (1997)، ووضع المشاهد في ورطة أيضاً. مبكراً في الفيلم، يبادر المخرج، السجين حاليّاً، إلى قصّ الخيط تماماً، لتظهر مينا الطفلة الضائعة، توجه الكاميرا في الاتجاه المعاكس نحو بناهي وطاقمه... إلى أن يقرر بناهي ملاحقتها بالكاميرا مرة أخرى، واضعاً المشاهد في ورطة لمحاولة اكتشاف الفيلم داخل الفيلم والتفريق بين الواقع والمتخيل.
من المؤكد أن الحفاظ على هذا الخيط الرفيع، أو تذويبه في سبيل توريط المشاهد أحياناً، يمنح السينما في إيران، في مرحلة ما بعد الثورة ميزة ومساحة للتأمل خارج إطار الواقع الإيراني: سواء من الناحية الفنية حيث تذوب التقاسيم بين الروائي والوثائقي، أو الاجتماعية التي تتمثل في عدم فرض وجهة نظر على الجمهور المشاهد، حتى لو سمّيت واقعاً. يمنح ذلك البعد الإضافي للعين المتلقية، وخصوصاً الإيرانية، فرصة للتأمل في خطاب الفيلم ومناقشته ضمنياً أثناء التلقّي، فلا تفرض ثوابت معينة واقعية ولا حقائق مطلقة. ويبقى الخيال كنافذة مفتوحة دائماً يسهم فيها الجميع، سواء المخرج أو المشاهد.