يبشّرنا أنبياء الليبراليّة، منذ سنوات، بنهاية الحلم العربي، وغرقه في مستنقع الفتن الأهليّة، أو تفتته إلى انعزاليات قطرية: أرخبيلات تائهة في خضم العولمة، فاقدة لهويّتها ومرجعيّاتها، مخيّرة بين استلاب للنموذج المهيمن أو انغلاق على عصبيّات بلا قرار... لكن الفرحة الشعبيّة التي عمّت العالم العربي مشرقاً ومغرباً بعد انتصار «ثورة الياسمين» في تونس، تشير إلى عكس ذلك. ملايين العرب عاشوا الثورة من بعيد، على النت وفي التلفزيون، وهم مقتنعون تماماً أنها ثورتهم ضد أنظمة تفتقر الى الشرعيّة، وتحكم بالخوف والتهويل والخداع والجريمة المنظمة.
صارت تونس لأيّام مختبر الحلم العربي بامتياز، العاصمة النموذجيّة، المثال الأعلى الذي ينبغي الاقتداء به، الحلم الهشّ الذي نخاف أن يجهض. هكذا صرنا مدمنين على سيل الصور التي ضاقت بها الصحف المحليّة، صباح اليوم الأوّل بعد الكابوس.
اللحظة التاريخيّة التي شهدت انهيار الطاغية التونسي، وشرّعت بلاد عوليسة على كل الاحتمالات (بما فيها الخيبة المريرة)، تعشّش الآن في ذاكرتنا الجماعيّة. طالب جامعي بين الجموع المحتشدة، يرفع يافطة بانكليزيّة تقريبيّة: «أرأيتم رئيساً يعتبر شعبه أحمقاً إلى هذا الحد؟». أو تلك الصبيّة العشرينية ذات الجبين الأسمر العريض والشعر الكث والكنزة الفوشيا، محمولة على الأكتاف تبتسم بثقة وهي ترفع كرتونتها الصغيرة التي كتب عليها بالانكليزيّة أيضاً: «انتهت اللعبة». شباب تونس الفرنكوفون، فضّلوا الانكليزيّة لشعاراتهم. لعلّهم كانوا يعون تماماً أهميّة اللحظة، ويعرفون أنّهم يخاطبون العالم كلّه ذلك اليوم.
رجل البوليس الذي انتابته حالة يأس أو تعب أو ندم، بعدما أشبع المتظاهرين قمعاً أمام وزارة الداخليّة، فرفع حجاب الخوذة البلاستيكي الواقي عن وجهه، أمسك رأسه وأخذ يبكي. وتلك السيّدة كانت عيناها تقدحان شرراً، وهي تردد أمام الكاميرا: «لا تخافوا الطغاة. لا تخافوا الطغاة. لا تخافوا الطغاة». على مقربة من هنا ميليشيوي باللباس المدني والكاسكيت قبض على متظاهر، بطحه أرضاً وانهال عليه ركلاً وضرباً بالهراوة، قبل أن ينضم إليه رجال أمن بلباسهم وهراواتهم.
الرجل الأشيب يقول للشباب إن الطريق مفتوحة أمامهم الآن، ثمّ يغصّ: «نحن أفنينا عمرنا في انتظار هذه اللحظة». رجل أربعيني في الليل، يدور حول نفسه كالأسد الجريح، صوته يمزّق الصمت في جادة بورقيبة المقفرة: «يا توانسة مبروك عليكم وليتوا أحرار، الكلب هرب». أما «البرفورمانس» الحقيقي، فقد أعدّ له محمد بوعزيزي جيّداً. كان باسماً ذلك اليوم في سيدي بوزيد رغم كل شيء. قال مونولوغاً أمام الكاميرا، ختمه بعبارة «تصبحون على وطن» التي استعارها من محمود درويش. رش الكاز على ملابسه وأشعل عود الثقاب، ليغيّر وجه التاريخ في بلاده.