لن تجدوا في كباريه التشكيلي المصري وائل شوقي (1971) إلّا الدم والدمى، وتاريخاً من القسوة، وخدعاً انطلت على الجميع. في معرضه «أساطير معاصرة 2»، يتسلّل إلى مفاصل محورية في التاريخ القديم والمعاصر، ويعيد بناءها درامياً وبصرياً وأدائياً، وفق رؤى مفاهيمية عميقة ومؤثرة. يتشارك شوقي مساحة العرض في «غاليري صفير ـــــ زملر» مع منيرة الصلح (1978). تواصل الفنانة البصريّة اللبنانية بدورها تحليل ظواهر سياسية واجتماعية تحت عنوان «معرض رقم 17». بأسلوبها المراوغ، تعيد إنتاج حكايا وتجارب شخصية وعامة، بكثير من السخرية المبطنة. تُمعن الصلح النظر في اليومي والعيش والأحلام. شغفها يقودها دوماً إلى تعقّب تحولات مصيرية، وقضايا ضمنيّة، في بناء بصري وأدبي، يأخذ طابع البوح والفضفضة. شراكة شوقي والصلح في هذا المعرض ستبدو مؤثرة وعميقة، إن نظرنا إليها من زاوية الانقلاب على المألوف، وقراءة القلق، وإعادة الاعتبار إلى اللحظات الهاربة في التجربة الإنسانية. يبدو شوقي في مشاريعه البصرية كأنّه يخلق فجوات في اقتناعات جماعية وأفكار يقينية. تحليله لمفاهيم عامة، من خلال تتبّع نتائجها الراهنة، يوقظ وعياً جديداً ومغايراً لهذه المفاهيم. الكراهية المبررة، القتل المشفوع بتعاليم سماوية، الحروب المقدسة، كلّها عناصر تبرز جلية بين طبقات أعمال شوقي التي تتداخل مع الزمن، وتتخذ مواقف جدلية واضحة، من الإيمان العبثي بأفكار كانت بوابة لكوارث إنسانية تحت مسميات مُضللة. «أساطير معاصرة 2» هو العنوان العريض لمشروع بصري يذهب فيه إلى منطقة شديدة الالتباس. فيلمه التحريكي الملحمي للدمى «كبَاريه الحروب الصليبية: ملف عرض الرعب» جزء من سلسلة أعمال سابقة، عاد فيها إلى لحظات ومفاصل تاريخية مؤثرة في بنية المنطقة، وتكوين وعيها العام. اللحظة التاريخية لديه تتحرك في فضاء من الاحتمالات غير المألوفة، وفي مواقع كثيرة يبدو كأنه يعيد تمثيل جرائم ارتكبت في حق الإنسانية. الطبقات التي تتألف منها أعماله تبدو مشبعة بأدوات متنوعة لإيصال الفكرة، وخلق تأثيرات عامة مباغتة، تخلخل الرواية الرسمية لوقائع كثيرة نعرفها أو عايشناها.
يضعنا صاحب «ليه لأ» أمام منطلقات ذهنية متشابكة لقراءة آليات صناعة العدو. تحتاج الشعوب إلى أعداء لتنسى واقعها. الحروب والكوارث وقتل الملايين تصير ضرورة وحاجة وطنية. يعود شوقي إلى أحداث وقعت بين 1096 و1099. يستند العمل إلى طابع توثيقي ومعلوماتي للأماكن والأحداث والظروف السياسية في المنطقة العربية وأوروبا، وكلها مثّلت خلفية لواحدة من أشنع الحروب في التاريخ. رواية شوقي للتاريخ ستكون هذه المرة على لسان الضحايا، ومستندة إلى كتب عدة أبرزها رواية أمين معلوف «الحروب الصليبية كما رآها العرب» (1986).
يأخذنا العمل إلى أقصى درجات الاستلاب. ميل شوقي الدائم إلى خلق فرجة مؤثرة، قاده إلى استخدام دمى أعطت العمل بعداً تعبيرياً وتفسيرياً حيوياً. التركيز على العيون كأداة تعبيرية أساسية سينقل لنا ذلك الحجم غير المحتمل من الرعب الذي عاشته المنطقة. ذلك القدر من الكراهية التي استطاع الساسة زرعها في نفوس المقاتلين بذرائع دينية، ينقلها شوقي إلى اللحظة الراهنة. ألا يحمل العالم الراهن القدر ذاته من الاحتقان والريبة الدينية؟ هل يعيد التاريخ نفسه؟ ربما. في «المعرض رقم 17»، تضع الصلح نفسها في مواجهة أفكار بسيطة ومُربكة. نتاجها المشحون بأحاسيس متضاربة، يعيد النظر في مفاهيم كثيرة: المكان، الوطن، الأحلام، الهجرة، الذاكرة الشخصية. لا تقدم أعمالها نتائج حتمية أو تفسيرات، بقدر ما تضع المتلقّي في مواجهة مخاوف وتفاصيل مُربكة. يتألف عملها من فصول منفصلة ومتداخلة. فيلم «برغر مزدوج وتحولان» هو جزء أصيل من نتاجها الذي يقرأ حالات إنسانية من منظور تتشابك فيه الآثار السياسة والاجتماعية والاقتصادية. وفي الوقت الذي نعاين فيه رسوم شخصيتها بسام زملاوي، تتشبّه الصلح بحيوانات مثل القطة، لتقدم أحاديث عبثية عن مواضيع مُلحّة مثل الحب والطعام. في المقابل، ستكون كتابات روسو وسبينوزا، وأمثال عربية شائعة، حاضرة لخلق تأثيرات ذهنية متشعّبة. تضعنا الصلح أمام المحدودية البشرية، وتدير رؤوسنا إلى زوايا مظلمة في علاقة الإنسان بمحيطه.
تبني صاحبة «كأنّ مكاني ليس هناك» (2006) أعمالها وفق مستويات عدة. خلق مساحات بين الفعل الدرامي في فيلم الفيديو، المكملات البصرية المرافقة، تؤدي دوراً في تأجيج عاطفة المتلقّي، ومنحه فرصة لإضافة خيالاته الخاصة. تنطلق الصلح عادة من بنية حكائية، يأخذ السرد حيّزاً بلاغياً، يضفي على النص البصري إيقاعاً داخلياً لا يخلو من البهجة. الصلح التي تجيد رواية القصص، تجد في ذلك متنفساً تعبيرياً داعماً لخلق تناقضات بين الصورة البصرية، وحقيقتها في الذاكرة. هذه التحريفية المربكة تضع العمل في مواجهة مباشرة مع نمطية التفكير، وكلّ ذلك الروتين الذي يسيطر على محاكماتنا العقلية للأشياء.

حتى 19 آذار (مارس) المقبل ـــــ «غاليري صفير ـــــ زملر» (الكرنتينا/ بيروت). للاستعلام: 01/566550