لم يكن الياسمين قد فاح بعد على تونس وديار العرب، حين كتب الحبيب السالمي روايته «نساء البساتين» (دار الآداب ـــــ 2010)، في قلب حالة الانحطاط التي فرضتها ديكتاتوريّة بن علي. الكاتب التونسي المقيم في باريس، يختزل هنا الشارع التونسي، من خلال مشاهدات عابرة لمهاجر يعيش في باريس بدوره، أتى بلده بعد غياب في إجازة مدتها 19 يوماً. أول صدمة تواجهه، هي الحجاب الذي يغطي رأس زوجة شقيقه. سوف يعلّق الزوج ساخراً: «حجاب من فوق... وسترينغ من تحت». لعلها صورة مجازية لتحولات العاصمة التونسية. حالما يبدأ توفيق جولته الأولى في شارع الحبيب بورقيبه، تلفته مناظر لم تكن مألوفة في زيارات سابقة له. في مقهى «الانترناسيونال»، ينتبه إلى مومسات يبحثن عن زبائن بمساعدة نادل المقهى الذي يحلم بأن يهاجر بأي وسيلة ممكنة. حلم الهجرة يراود كل من يصادفه الراوي: «تونس صارت مثل جهنم» عبارة يقولها صديقه القديم نجيب كمون، وتكررها ليلى التي يلتقيها توفيق في لحظة غرام عابرة. أما شقيقه الأكبر البشير الذي يدير «مدجنة»، وينتسب إلى الحزب الحاكم، فيصف المعارضة بالكلاب المسعورة الضالة. لن يلتفت الراوي إلى ما يقوله الآخرون. يكتفي بملاحظاته الشخصية واكتشافاته اليومية خلال تجواله في الشوارع والأمكنة القديمة. في سوق العطارين، سوف يجد مصرفاً مكان مقهى شعبي كان يتردد إليه. وفي نهج القصبة، سيرافق صديقه إلى ماخور. أما تمثال ابن خلدون في ساحة الاستقلال، فيحرسه رجل أمن. غرفته تطل على مركز للشرطة الذي يتصدره ملصق ضخم لحزب «التجمع الدستوري الديموقراطي». قبل أن تنتهي إجازته، سيفاجأ بملصق جديد «ابتسم فأنت في تونس». بين «حي البساتين» ومركز المدينة، يجد توفيق نفسه تائهاً، وسط تحولات، لم يتمكن من إدراك جوهرها بسهولة. القشور البرّاقة للحداثة، تنطوي على تناقضات صارخة في تصرفات البشر. شقيقه إبراهيم، الذي يذهب إلى الجامع بانتظام، لا يمانع أن يذهب خفيةً إلى ماخور، أو أن يجلب الشرطة إلى جارته «نعيمة» متّهماً إياها بسوء أخلاقها، وإيداعها السجن (!). هذه الوحدات السردية المتجاورة، تتكشّف تدريجاً عن هشاشة أرواح شخصيات «نساء البساتين»، وعن أحلام مجهضة، ورعب يتسلل إلى الراوي نفسه، وخصوصاً بعد أن توقفه دورية شرطة، من دون مناسبة للتأكد من أوراقه الثبوتية. يقول «الأشياء من حولي تغرق في العتمة». كل ما يحدث هنا يعبّر عن سلوكيات متناقضة، وأقنعة تخفي حقيقة ما يجري في السرّ. سائق التاكسي يشكك في وطنية توفيق، لأنه طلب منه خفض صوت المسجّل، وهو يصدح بأغنية فريد الأطرش «بساط الريح» التي يمجّد فيها «تونس الخضرا». فيما يتّهمه أحد الملتحين بأنه كافر، بسبب عدم دخوله الجامع وقت الصلاة.
ذوات جريحة وممزقة بين إرث قديم وحداثة مستعارة، تخرج إلى السطح بعنف مكتوم، وشجارات زوجية، ونفاق معلن، ومنافسة بين «الدينار»، و«اليورو». ذلك أن نظرة التونسي إلى مواطنه المهاجر لا تخلو من حسد وضغينة من جهة، واتهام بالفوقية من جهة ثانية.
لا يمكننا قراءة الرواية بمعزل عمّا يحصل في تونس اليوم، فها هنا تفكيك لآلية السلطة التي أرخت بظلالها السوداء على مصائر البشر، وكبّلت أحلامهم بحضورها البوليسي الثقيل. يقول ضابط الأمن للراوي محذّراً «نحن لسنا في فرنسا... فرنسا شيء وتونس شيء. تونس ليست بلاد فوضى. تونس بلاد نظام وأمن. فهمت؟». إجازة قصيرة لكنها مثقلة بالعتمة، تضغط عليها لحظة عصيبة ومتوترة وخانقة، لا ينجو منها حتى الأطفال. وائل ابن شقيق الراوي نسي الرسم، وصبّ اهتمامه على الصلاة في الجامع، وانهمك بأسئلة عن الدين ومعنى الإلحاد. سوف يترك صاحب «روائح ماري كلير» هذه المشاهد المتتابعة لتأويل المتلقي، كي يبني نصه الخاص وفقاً لرؤيته، من دون أن يقع في محاكمة شخصياته ضمن «بازل» يحتاج إلى تركيب دقيق لتوضيح الصورة الشاملة لمجتمع يعيش تمزقات كبرى، تضيئها تفاصيل صغيرة، وقيم متحولة. لن يتردد نجيب كمون، الذي يعمل مدرّساً، بأن يطلب من صديقه المهاجر تأمين فيزا له مقابل أي عمل يعثر عليه: «بوّاب، حارس، عامل نظافة، بائع جرائد. صدّقني، لو وجدت عملاً وحصلت على فيزا لغادرت هذه البلاد». يغادر توفيق البلاد فجراً، وهو يحدّق في صورة طفل يمسك بباقة ياسمين، ويقرأ بتمهّل ما كُتب تحتها «ابتسم فأنت في تونس».