رغم أن أطروحته «من أجل حداثة متعددة الأصوات» (دار الطليعة ـــ 2010) تضيء على إرهاصات ما بعد الحداثة في أوروبا، إلا أنّ إشكالية محمد المصباحي الرئيسية تبقى البحث عن موقع العالم العربي من الخطاب الحداثوي... فما الذي منع العرب من تذرير البنى التقليدية، في ديارهم المترامية؟ يقدّم الباحث المغربي مادة غنية ومتشعبة، حول الأنساق الفلسفية في الغرب الأوروبي. يستهل أسئلته المعرفيّة، بالنص الكانطي «ما هو التنوير؟» الذي يشي ـــ كما يلحظ فوكو ـــ بشعور بالجدة والراهنية والتجاوز، وما يرشح عنها من اكتساب سمات الحداثة، وزعزعة اليقينيات والأسطرة في الدين والثقافة والسياسة. «الخروج من الظلام إلى النور» معادلة تلخّص الفلسفة الكانطية، ولعلّ الأهم فيها الإيمان بالعقل والتفكير، أو بمعنى أدق تبني شعار التنوير: «تجرّأ على استخدام فهمك الخاص». هذه المعالم العقلانية حدّد لها صاحب «الدين في حدود العقل البسيط»، ثلاثية تتألف من رجل الفكر، والجمهور النخبوي، وعلانية المخاطبة. لكن الأهم عند كانط، كانت رؤيته لاستحالة التسليم بنظام ديني ثابت وأبدي «إذا كان يتعارض مع حق الناس في التنوير». فما الذي فعلته الدوغمائيات الدينية في المجال العربي/ الإسلامي؟ وهل تشكل عقلانية ابن رشد الفيصل؟ لم يكن كانط على معرفة بالإسلام، ما دفعه الى اعتبار التأويل البروتستانتي للمسيحية ذروة الدين الخالص، ليس من منطلق نبذ الديانات التوحيدية الأخرى، بل لأن المسيحية الغربية دخلت في التنوير عكس اليهودية والبوذية والإسلام. كانط الذي انتقد فكرة التثليث وألوهية المسيح، لم يتوان عن نقد الدين الشعبي، وما أخطره عندنا نحن العرب.
ومن الإصلاح الديني إلى تمثلات حقوق الإنسان عند الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز، يرسم المصباحي خريطة الحداثة الغربية التي جعلت من الفرد/ المواطن محور الكون والمفاهيم. الأهم عند هوبز تدشينه للدولة الحديثة تحت براديغم «الواحد بالعدد»، أي انصهار الإرادات الفردية في إرادة «كلية واحدة» قد تكون ممثلة بحاكم واحد أو في يد جماعة. هوبز رفض التراتبية العرقية والطبقية والدينية، لمصلحة حقوق الجماعة، على عكس الفلسفات الحقوقية المعاصرة التي لا تقرّ بمبدأ الوحدة، وتنادي بالتعددية والاختلاف، على نقيض نسق هوبز الواحد، الذي يبدو كأنّه «لم يشم رائحة الأنوار»، كما يلفت المصباحي.
«التعدد الثقافي والمفهوم الناعم للحداثة والتنوير»، يمثل الجزء الأهم في أطروحة المصباحي، وفيه يرصد إشكاليات التعددية، في أزمنة ما بعد الحداثة. «سياسة التجانس الثقافي» التي دشنت لها الفلسفة الليبرالية مطالبةٌ بالاعتراف بالتعدد، بعدما قادت حملات ضد الثقافات الأخرى، انطلاقاً من نظرية الأنوية الأوروبية. والمطلوب في هذه اللحظة كما يقول الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس «النظر إلى الغير في غيريته»، وإلى الآخر «في آخريته»، بوصفه آخر لا أنا. وعلى نهج ويل كيمليكا، الفيلسوف الكندي، مجترح «مفهوم المواطنة متعددة الثقافات»، نظّر هابرماس للحق في الاختلاف في الدول الحديثة. انتقد في هذا الإطار نظريات الاندماج التي تتخطى الخصوصيات الثقافية. «الدولة ما بعد الحداثة» من أولوياتها «رعاية الاختلاف والحفاظ عليه وتطويره». وتحت معادلة العلمنة السياسية، يمكن هذا التعددَ الحفاظ على هويته، ما دفع كيمليكا الى التمييز بين نوعين من حقوق الإنسان، الحقوق المشروعة، والحقوق الإشكالية. وهنا نحيل الى الأطروحة الجادة «إشكالية التعددية الثقافية في الفكر السياسي المعاصر» للكاتب العراقي حسام الدين علي المجيد. الأولى، تحافظ على الجماعة من التهديدات الخارجية، والثانية تصون الهوية الثقافية «إزاء التهديدات الداخلية». هل تمثّل خلاصات كيمليكا وهابرماس مخرجاً لمآزق التعدد في العالم العربي؟ وهل نمط دولة ما بعد الحداثة قابل للتطبيق عندنا؟
«الحداثة نفسها هي علّة أزمة الحداثة» هذا ما خلص إليه الفيلسوف الأميركي ليو شتراوس الذي فضل إعادة النظر في الفلسفة السياسية، لجهة نقد الحداثة أولاً، ولجهة نقد «نقد الحداثة» ثانياً. وصل به المقام إلى المطالبة بفهم نصوص أفلاطون وأرسطو، لا كما قرأتها الحداثة، بل كما فهمها أصحابها، «لأنّ نسيان الحداثة للفلسفة السياسية الكلاسيكية، التي أنشأها هؤلاء على أساس الفضيلة، كان أحد الأسباب الرئيسية في نشوب أزمة الحداثة السياسية». وفي نهاية المطاف، فإن مشروع شتراوس يهدف إلى المواءمة بين الديني والسياسي، أي بجعل «الماضي ترياقاً لعلاج أزمة الحاضر». لكنّ ردة شتراوس نحو الماضي، وانتقاداته لليبرالية أعطته مواصفات المنظّر المحافظ، كما يلفت المصباحي في أكثر من موضع.
رهانات الحداثة في العالم العربي تحتل جزءاً صغيراً من الأطروحة على أهميتها المعرفية. تحت سؤال «من أين يبدأ التنوير ومعركة الحرية؟»، يعالج الكاتب انسدادات الحداثة عندنا، بدءاً من الأنماط العربية الإسلامية التي روّجت لمدح العبودية. ويخلص في هذا المجال الى أن مجابهة الموروثات لا تكون إلا عبر الحرية في التفكير كما قال كانط. أين العرب من مقولة «ماهية الحقيقة هي الحرية»؟ ألم يكن من الأجدى أن يفكك المصباحي البنى المجتمعية والدينية في مجتمعاتنا التي تمارس بدورها أشد أنماط التكبيل؟