منذ عقد ونيّف، حملت الألفية الجديدة هديةً للشباب العربي. عالم افتراضي تجاوز الخطوط الحمر التي فرضتها أنظمتهم، ومتنفس بعيد عن مقص الرقيب، ومنابر إعلامية تستعصي على كل أشكال الاحتكار، وتتجاوز حدود نفوذ الناشرين. هكذا في مرحلة أولى، انكبّ آلاف الشباب من المحيط إلى الخليج على مناقشة المحظور في فضاءات منتديات كثيرة، نذكر بينها «مدن» و«شبكة اللادينيين العرب»، على سبيل المثال لا الحصر. تلك المساحات الافتراضية «المحرّرة»، اقتحمها الجيل الجديد الباحث عن مكانه في عالم جديد، ليناقش قضايا مفخّخة: من قيود الأنظمة السياسية وسلطة الحاكم المطلق التي يرزحون تحتها، إلى القضايا الروحيّة والثقافيّة والسياسيّة والوجوديّة، وفي طليعتها وضع المرأة العربيّة مثلاً، أو ظاهرة العودة إلى الدين، وتجليّاته الجديدة الصاعقة التي يميل بعضهم إلى ربطها بمظاهر التخلف والإرهاب، مروراً بالقضايا الاجتماعية. كان الوقت لا يزال مبكراً لنشر الشعر الذي ظلّ ينساب بنغماته الخافتة في عتمة المقاهي، وعلى صفحات كتب يتناتشها الأصدقاء. المسكوت عنه كان كثيراً، وقد احتلّ الأولوية في مجال البوح، واستلزم سنوات لتفريغ شحناته الغاضبة والمكبوتة. بعد ذلك، بدأ وهج المنتديات يخفّ تدريجاً، لينتقل الزخم إلى المدوّنات. مع كلّ تطوّر تكنولوجي، كانت تبرز نبرة جديدة في الكتابة التي اكتست هذه المرة حلة أكثر شخصانية في الشكل وفي المضمون: بدل الأسماء المستعارة المستخدمة في معظم الأحيان في المنتديات لـ«ضرورات أمنية» تتعلق بخطورة المادة السجالية الدائرة فيها، اتّجه الشباب نحو إنشاء مدوّنات حملت أسماءهم الحقيقية، ونقلت النقاش من العام إلى الخاص، فيما حرّرت الكاتب من الالتزام بموضوع النقاش أو بشروطه. في المدوّنة، أتيحت فرصة التجريب لشباب يحلمون بالكتابة، فزادت جرعة الأدب (والحكي في بعض الأحيان)، كذلك أتاحت طبيعة الوسيلة المستخدمة للنشر المزيد من الحرية في اللغة، لتنشئ لغة خاصة بالمدونات، لُقِّحت فيها اللغة الفصحى باللهجات العربية المحكية. حالياً، تراجع التدوين، ولو نسبياً، أمام نجم العالم الافتراضي، موقع «فايسبوك» الذي يوفّر رقعة انتشار أوسع. في هذه الشبكة الاجتماعية الأوسع، يتاح للائحة طويلة من الأصدقاء ومن أصدقاء الأصدقاء ـــــ وهكذا وصولاً إلى قرّاء بعيدين ـــــ قراءة النص المنشور.
«أجوّف سروة/ وأقف مكانها في الريح/ بعد قليل، سيصلني أنّ قطارك تأخر/ بسبب سرو هوى على السكّة!» تطول تعليقات الأصدقاء المعجبين في أسفل هذه القصيدة القصيرة المنشورة على صفحة «فايسبوك» الخاصة بالشاعرة الفلسطينية أسماء عزايزة التي نالت منذ فترة «جائزة مؤسسة القطان للكتاب الشباب». تنال قصيدتها «زو أرتسي»، أي «هذه أرضي» باللغة العبرية، الإعجاب ذاته: «أولادٌ يتدربون على نطقها/ وهم يفكون أخشاب الصليب ويلقونها نحو الغرب/ «زو أرتسي» ثم يتعلمون كتابتها على الجدران وهم يدقون المسامير العوجاء/ دون أن ينتبهوا/ في رؤوسهم/ في قعر البحر/ هناك أسماكٌ تأكل الأخشاب وتبيض ذاكرةً جديدة».
هكذا، بعدما كان القارئ يقصد في مرحلة أولى المكتبة لشراء كتاب شعر جديد، أو يتبادل كنوز الكتب مع أصدقائه، ثم أصبح في مرحلة ثانية، يقصد المدوّنة للإطلاع على الإصدار الجديد لكاتب يعرفه، أصبح حالياً يلج إلى صفحته الخاصة على «فايسبوك» لقراءة الجديد المنشور. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الشاعرة اللبنانيّة سوزان عليوان، كانت من أوائل الذين انتبهوا إلى الإمكانات التي يفتحها العالم الافتراضي أمام القصيدة، فراحت منذ عقد تنشر إنتاجها على موقعها الخاص (قبل المدوّنات والشبكة الاجتماعيّة)... وكانت قصائدها قد انتشرت على أوسع نطاق، على نحو مدهش.
إلى أين قد يصل ذلك الخط التصاعدي في اختزال طقس الذهاب نحو النص؟ وهل يعني ذلك أن الكتّاب والشعراء قد فقدوا اهتمامهم بالنشر الورقي؟ ما هي ميزة النشر الافتراضي على ذلك الورقي؟ وماذا عن حقوق الملكية الفكرية في هذا الإطار؟
«الـ«فايسبوك» مجرد مساحة إضافية، واستغلالها أو عدمه ليس بالأمر المصيري. إلا أن هذه المساحة قد تتميّز بقيم مختلفة قليلاً كالسرعة في النشر وردود الفعل الفورية والتفاعل المباشر مع القارئ، إضافة إلى ميزة أساسية هي وصول النص إلى متصفح غير القارئ المتوقّع، يقع عليه من طريق المصادفة وهو يُقلّب صفحات أصدقائه. لكنه قد لا يقتنيه من مكتبة»، تقول أسماء عزايزة. رأي يوافق عليه الشاعر اللبناني الشاب علي زراقط الذي يرى أن النشر الافتراضي فرصة انتشار واسعة، ولا يرى ضرراً من أن يحل هذا النوع من النشر محل الكتاب «الذي هو في النهاية سلعة لا تأتي لناشرها بمردود مادي في جميع الأحوال».
إلا أن الشاعرة الفلسطينية تعترف بأن النشر الكلاسيكي يظل الأساس، إذ «يعيد للنص اعتباره ويسلم الكاتب إزاءه من استحقاقات الكتابة. أما في مصنع «فايسبوك» الضاج، في هذه الآلة الضخمة، فإنّ كل شيء يُطحن طحناً من النصوص والصور والفيديوات إلى البشر والنصوص». إلا أنّ النشر الافتراضي يتمتّع بميزة عملانية استثنائية بالنسبة إلى الداخل الفلسطيني.
أسماء عزايزة التي ترجّح وجود «علاقة جدلية بين النشر الافتراضي وتقلّص جمهور مشتري الكتاب»، تعترف للنشر الافتراضي بقيمة ليس بمقدور الورق اكتسابها، كالقدرة على تجاوز القانون. فـ«إذا مُنع كتاب في دولة عربية، يستطيع مواطنوها قراءته عبر الإنترنت. وإن مُنعتُ أنا شخصياً ـــــ وفق قانون الاحتلال الإسرائيلي ـــــ من قراءة كتاب صادر في بيروت أو دمشق أو أي دولة عربيّة، فإنني بالتأكيد أستطيع قراءتها إلكترونياً. الصحف والمجلات والملاحق الثقافية الفلسطينية ـــــ بسبب وتيرة طباعتها السريعة ـــــ يتعذر دخولها إلى العالم العربي، والعكس صحيح، أي إنّ المجلات العربية لا تجد طريقها إلى الداخل المحتل. وهنا تحديداً، تتجلى أهمية النشر الإلكتروني».
الالتفاف على قوانين المنظومة الرسمية ــــــ أكانت محتلاً، أو نظاماً محلياً قمعياً أو حتى آلية تعتمدها دور النشر بشروط خاصة استنسابية ــــــ هو ما دفع الروائي المصري نائل الطوخي إلى استحداث مدونة «هكذا تحدث كوهين» (hkzathdthcohen.blogspot.com) التي ينشر فيها ترجماته عن الأدب العبري، بعدما «حاولتُ نشر ترجماتي في الكثير من الصفحات الثقافية، لكنني اصطدمت بتوجسها من أن يُحسَب نشر تلك المادة عليها نوعاً من الترويج لثقافة العدو» كما يقول. لكنّ الطوخي يبدي تفهّمه للجانب الحساس والمشروع في هذه القضية، وخصوصاً في ظل ضرورة الحصول على الحقوق الأدبية من ناشرين وأدباء إسرائيليين في حالة النشر. طبعاً الهدف هنا تسليط الضوء على التجربة، ولا مجال لمناقشتها تفصيلاً، لكنّ المترجم الشاب (1978) يؤكد أنّ مدونته ليست ركضاً مراهقاً وراء الموضة «التطبيعيّة»... بل سعي إلى التركيز على معرفة الآخر ـــــ ولو كان عدواً ـــــ من خلال إنتاجه الأدبي».
تبدو المساحة الحرة العابرة لقوانين الأنظمة والحدود ومعايير النشر، خياراً بديلاً، أو حتى مكملاً بالنسبة إلى كثير من الكتاب والشعراء. هكذا، يجدها الشاعر التونسي عبد الوهاب الملوح (1961) «مكملاً أساسياً للنشر الورقي، وخصوصاً في وضعنا العربي البائس جداً، من حيث توزيع الكتب وقوانين مصادرة النشر التي ما زالت تتحكّم بجميع البلدان العربية». مع ذلك، يرى الشاعر والكاتب الذي يبلغ رصيده الأدبي حتى الآن سبعة إصدارات أدبية، آخرها «الليل دائماً وحده» (دار النهضة ـــــ 2010)، أن «النشر على الإنترنت هو بمثابة عملية باردة لا مذاق لها، بينما يظل النشر الورقي حقيقة فعلية تتميّز بمهابتها وقيمتها وطعمها». الإنترنت برأي الملوح «يضمن نسبة انتشار، لكنها آنية... لأنّ المتصفح سرعان ما سينسى لأن قراءته للعمل تظل عرضية، وخصوصاً أنّ كثيرين فقدوا ثقتهم بما يُنشَر من نصوص إبداعية على الإنترنت، على اعتبار أنّها مساحة مفتوحة لمن هب ودب، والنشر فيها مسألة كم، لا كيف».
ويتنبّأ الشاعر التونسي بـ«موتيفات افتراضية جديدة أخرى ستقلّص التهافت على «فايسبوك»، كما سبق أن فعلت مع الـ«ماسنجر» والـ«سكايب» ووسائط نشر أخرى، فيما يظل الكتاب صامداً رغم مرور قرون عليه». من هذا المنطلق يمتنع عبد الوهاب الملوح عن نشر قصائده افتراضياً، إلا بعد صدورها ورقياً، وخصوصاً أنّ المساحة الافتراضية لا تحمي من قرصنة النصوص ولا تخضع لقوانين حماية الملكية الفكرية. بدورها لا تنشر الشاعرة السعودية مريم عبد الله قصائدها على الإنترنت قبل صدورها ورقيّاً، لأن «النشر الورقي يظل هو المرجع». الكاتب «لا يحصل على اعتراف إلا إذا نشر ورقياً». كذلك فإنّ «سهولة النشر على الإنترنت أتاحت لكل من هب ودب أن ينشر هرطقاته من دون أي ضوابط، وأن يعدّ نفسه شاعراً أو كاتباً».
من الطبيعي أن يوفّر النشر الافتراضي انتشاراً أوسع، لكن يظلّ السؤال: إلى أي مدى يكون هذا الانتشار حقيقياً؟ وهل تعكس هذه الحالة الثقافية الإلكترونية الواقع الثقافي لمجتمعاتنا؟ «الإجابة مرهونة بمرور الوقت» تقول سمر عبد الجابر. الشاعرة الفلسطينية التي أصدرت حتى الآن ديواناً واحداً هو «وفي رواية أخرى» («دار ملامح» و«منشورات إكس أو» ـــــ 2009)، تتوجس من قضية حقوق الملكية الفكرية. لذا، هي لا تنشر على «فايسبوك» قبل الطباعة. وتتوجس كذلك من مظهر آخر في النشر «الفايسبوكي»: «المشكلة الحقيقية في النشر على المدوّنات والـ«فايسبوك» هي الافتقار إلى النقد الحقيقي في معظم الأحيان والانغماس في المجاملات المتبادلة من دون قراءة حقيقية للنص وإبداء الرأي الصريح الذي يُفترض أن يسهم في تطوّر نصّ الشاعر. وهذا الأمر يعطي فرص الانتشار لأصحاب الموهبة كما لمدّعي الشعر بالتساوي». بعيداً عن هؤلاء، وفي ما يتعلق بالمواهب الحقيقية، تجد الشاعرة أن النشر الافتراضي «مهم لأنّه يتيح للموهوبين فرصة لا تتيحها ـــــ للأسف ـــــ دور النشر التي غالباً ما تطلب مبالغ باهظة مقابل نشر كتاب. أضف إلى ذلك أنّ الجمهور الذي يشتري الكتب الشعرية قد تقلّص كثيراً في السنوات الأخيرة، وغالباً ما يكون اهتمامه منحصراً بشراء كتب للشعراء الكبار والمكرّسين، وقلّما تجذبه الأسماء الجديدة» وتلك قضية أخرى (راجع الموضوع أدناه).
ولا بدّ هنا من وقفة عند رواية «رصاصة واحدة تكفي» التي يتناول فيها الجزائري رابح فيلالي عشرية الدم في الجزائر، أول رواية تنشر أخيراً على «فايسبوك» قبل أن تصدر عن «جمعية البيت للثقافة والفنون» الجزائرية، وتباع عبر الإنترنت. وعلى رغم اعتراف الكتّاب والشعراء بأهمية هذا الوسيط الذي يوفر الانتشار، إلا أنهم يتحفّظون عليه لجهة حقوق الملكية ومستوى النتاج الأدبي المنشور الذي يحمل لعنة مبطنة هي... الاستسهال.
في كل الحالات، يبدو أن النشر الافتراضي يظل ظاهرة سجالية، حتى بالنسبة إلى ممارسيه. إذ إنّ ملامحه متعددة، تتباين الآراء في تقويمها. هكذا، فإنّ القاصّ المصري الشاب محمد فاروق الذي يستعدّ اليوم لإطلاق مجموعته القصصية الأولى «سينما قصر النيل»، وجد في نشر مقاطع من روايته على «فايسبوك» قبل صدورها (دار ميريت ـــــ القاهرة) مردوداً نقدياً كبيراً. يقول: «أدى التفاعل مع القراء إلى تنمية وعيي بالكتابة، وتطوير مشروعي الإبداعي والتنبه لبعض المشاكل التي شابت القصص كالأسلوب والتطويل أو الإيقاع عموماً. هكذا، عزفت عن نشر بعض القصص التي لم أكن مقتنعاً تماماً بها، وأكدت تعليقات القراء هواجسي من نشرها».
في هذا السياق، يبدو النشر الافتراضي مكملاً لذلك الورقي، أو حتى خطوة تمهيدية له بالنسبة إلى المبتدئين. إذ يتيح لهم استشراف آراء القراء بالمادة الإبداعية، إضافة إلى أنه يسمح للكاتب بالحفاظ على علاقة عضوية مع نص يظل قابلاً للتعديل على عكس الحال مع النشر الورقي الذي يبقى، رغم ذلك، الوحيد الذي يمنح صاحب النص صفة كاتب.
هل تكمن المشكلة إذاً في الوسيط ذاته، أم في طريقة مقاربة الكاتب له ولعملية الإبداع؟ التأثير السلبي للنشر الإلكتروني لا يحصل إلا عندما «يستسلم الكاتب له، فيتساهل أو يغيّر عاداته في الكتابة» كما يؤكد محمد ربيع، الكاتب المصري الذي نشر على مدونته مقاطع من روايته «كوكب عنبر» قبل صدورها (دار الكتب خان للنشر ــــ 2010) بهدف تشويق القارئ لقراءتها كاملة. عملية لا يزال عاجزاً عن تقويمها، رغم النجاح الذي حققته الرواية بعد إصدارها. «أظن أنّ أمامنا الكثير من الوقت قبل استبدال النشر الإلكتروني بالورقي. حتى اليوم، أرى أن النشر الإلكتروني بديل للنشر الورقي في حال الرقابة فقط»، يقول الروائي الشاب.
في وثائقي تناول حياة الشاعر والروائي الفلسطيني مريد البرغوثي (1944)، عرضته قناة «الجزيرة» منذ فترة، تحدّث الكاتب عن طقوس جديدة في الكتابة لحق بركابها، وهو المخضرم الذي لطالما اقتصرت عدّته الإبداعية لحظة الكتابة على قصاصة ورقية و... ريشة. ليس قلماً، بل ريشة. ريشة لم تكن نكهة الكتابة لتكتمل بالنسبة إليه إلا بعد أن يغمّسها بالمحبرة. رغم الطقس الشديد الخصوصية وذي الملمح المحافظ الذي رافقه لسنوات طويلة، يقتني البرغوثي اليوم حاسوباً. بنقرات عدة على لوحة المفاتيح، يكتب القصيدة. بنقرات أخرى، يكتب عنوانه البريدي وكلمة السر الخاصة به ليلج إلى صفحته على «فايسبوك». الكاتب والشاعر المخضرم الذي بحث في كتاباته ـــــ من منافيه المتعددة ـــــ عن الوطن، إلى أن وجده في «رأيت رام الله»، استغنى عن رائحة الورق والحبر وأصبح ينشر بعض كتاباته على صفحته على «فايسبوك» في محاولة شجاعة لمواكبة الطفرة التكنولوجية. طفرة نجحت في استقطاب الكتاب من مختلف الأجيال، بما قد يغيّر وجه النشر الأدبي على المدى البعيد، رغم التباين الواضح في تقويم مظاهرها من المستفيدين منها.