منذ انطلاق أول قناة خاصة في تونس، عام 2005، باسم «حنبعل»، لم تخف على أحد العلاقة الوطيدة بين الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي ومالك المحطة العربي نصرة. بعد فرار زين العابدين، توقّع كثيرون أن يُعتقل نصرة وتُقفل محطته، وخصوصاً أنّ ابنه مهدي العربي نصرة متزوّج فاتن طرابلسي، ابنة شقيق ليلى طرابلسي، زوجة الرئيس حينذاك، و«حاكمة قرطاج»
، حسب عنوان الكتاب الفرنسي الشهير. وها هي الحكومة المؤقتة تقدم على الخطوة بطريقة تذكّر بممارسات النظام السابق: مساء الأحد، أغلقت المحطة واعتقلت أصحابها، قبل أن تعود فتسمح لها بالبثّ ويطلق سراح العربي نصرة وابنه. أمّا التهمة الموجّهة إلى مالك المحطة وابنه، فكانت «الخيانة العظمى» و«خلق فراغ دستوري، وإدخال البلاد في دوامة عنف هدفها إرجاع ديكتاتورية الرئيس السابق». ويبدو أن قرار اعتقال نصرة ونجله ـــــ حسب معلومات غير مؤكدة ـــــ يستند إلى الاشتباه في إجرائهما «اتصالات مع الرئيس المخلوع» ضمن محاولات لـ«تأمين عودته بالتنسيق مع أجهزة دولة مجاورة». لكن بعد التحقيق معه والافراج عنه، أعلن العربي نصرة أنّه لم تثبت أي تهمة عليه.
يقول الباحث رياض الفرجاني في دراسة «تدويل المجال المرئي في تونس» إنّ بن علي شخصياً هو الذي اتخذ قرار إنشاء «حنبعل». بعد فترة من إطلاقها، حظيت بدعم من رئاسة الجمهورية بلغ مليونين ونصف مليون دولار، وفق ما أوردت يومها الجريدة الرسمية («الرائد الرسمي»). وحصلت AVIP الشركة الفرعية المكلفة تجميع الإعلانات للقناة، على جميع الامتيازات التي نص عليها قانون تشجيع الاستثمارات. واعتمد العربي نصرة على علاقته الحميمة ببن علي للحصول على آلاف التسجيلات من أرشيف التلفزيون الوطني مجاناً، وفق ما أكد المنتج خميس الخياطي.
إلّا أنّ العلاقة بين أسرة بن علي ونصرة مرّت بتقلبات عام 2007، حين طلب نصرة الأب مزيداً من الدعم المالي، ثم راح يرفع من سقف الانتقادات (في المجالس الخاصة لا في برامج القناة طبعاً!). ما جعل عبد الوهاب عبد الله ـــــ مستشار زين العابدين آنذاك ـــــ يُطيح العربي نصرة من رئاسة مجلس الإدارة، ويأمر أفراد الأسرة بتسمية نجله مكانه. ومن الطرائف أن أفراد الأسرة الذين يكوّنون أعضاء مجلس الإدارة، أصدروا يومها بياناً أول لعزل «رب الأسرة» في ذروة الأزمة مع عبد الله، ثم ألغوا القرار وأعادوه إلى مكانه بعد أشهر.
خلفية الصراع تعلّقت بسعي نصرة وجناح من مستشاري بن علي إلى إطلاق برامج نقدية في القناة، تُركّز على المواضيع الاجتماعية بنبرة نقدية عالية، مع تفادي الخوض في الملفات السياسية، بهدف جذب الرأي العام والحد من استقطاب «الجزيرة» والقنوات الخارجية للمشاهدين. ولوحظ أنّ هذه الخطة الاحتوائية تصاعدت مع تفاقم الأزمات مع «الجزيرة»، التي صُنّفت بأنّها «قناة معادية» وفق رئيس مجلس المستشارين وزير الداخلية الأسبق عبد الله القلال، وهو أحد الصقور البارزين الذين اعتُقلوا منذ أيام. إقفال «حنبعل» المؤقت أعاد إلى الواجهة الحديث عن وضع الإعلام في تونس. نظرياً، لا يزال هذا القطاع يخضع لمرسوم ملكي أصدره محمد الأمين باي عام 1957. وينصّ المرسوم على احتكار الدولة لحقوق البث الإذاعي والتلفزيوني، ما همّش القطاع الخاص، ومنعه من إطلاق محطات مرئية أو مسموعة، إلّا أن الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي منح عام 2003 إجازات لإنشاء محطات إذاعية وتلفزيونية لأفراد أسرته من دون مراجعة الإطار القانوني. هكذا، انطلقت عام 2003 أول إذاعة خاصة هي «موزاييك أف أم» لصاحبها بلحسن طرابلسي، الشقيق الأكبر لليلى. باختصار يمكن القول إن «التعددية الإعلامية» في تونس اقتصرت على المقربين من الأسرة الحاكمة. أمّا الإذاعات الخاصة التي انطلقت تحت حكم بن علي، فهي «موزاييك أف أم»، و«جوهرة أف أم» (2005) في مدينة سوسة، وأسّسها رجل الأعمال ناجي المهيري، الصديق الحميم لبن علي، وابن مدينته حمام سوسة. أما الراديو الثالث، فهو «الزيتونة للقرآن الكريم»، أول إذاعة دينية أطلقها عام 2007 صهر بن علي (زوج ابنته) محمد صخر الماطري، ثم إذاعة «شمس. أف. أم»، المملوكة لسيرين، ابنة الرئيس من زوجته الأولى نعيمة الكافي. وكانت آخر الإذاعات الخاصة «إكسبرس أف أم» التي بدأت بثّها أخيراً ويملكها مراد قديش نجل محمد قديش الطبيب الخاص لبن علي. وطبعاً، لم تكن تلك المحطات الإذاعية تبثّ أي برامج سياسية، بل اقتصرت على مجالات رياضية وموسيقية واجتماعية!
أما السؤال المطروح اليوم، فيتعلّق بملامح المشهد الإعلامي الجديد، وبطبيعة التشريعات التي ستمنح تونس إعلاماً مسموعاً ومرئياً يجمع بين العصريّة والتعدديّة وحريّة الرأي. البداية ليست مشجّعة، أقلّه على مستوى الشكل، وإن كانت ضحيّتها محطّة من رموز النظام البائد.


zoom

تخوّفات من الإساءة إلى حريّة التعبير



تونس ــ سفيان الشورابي
باسم الثورة، بدأت الرؤوس الإعلامية تتساقط في تونس. أوّل القرارات التي اتخذتها الحكومة الانتقالية الجديدة تعيين البشير الحميدي رئيساً ومديراً عاماً لمؤسسة التلفزيون الحكومية، بدلاً من شوقي العلوي. ومساء الأحد، أوقف بث محطّة «حنبعل» الخاصة المملوكة لرجل الأعمال التونسي العربي نصرة، بتهمة «الخيانة العظمى والعمل على إجهاض ثورة الشباب والتآمر على أمن البلاد»، ثم سرعان ما عاد البثّ، وأطل وزير التنمية أحمد نجيب الشابي على القناة معلناً مواصلة «حنبعل» بثّها.
بعد سقوط النظام، فتحت القناة استوديوهاتها لجميع المعارضين لتصفية حساباتهم مع زين العابدين وحاشيته، التي كان مالك المحطة من ضمنها. كما انفتحت القناة على الرافضين للحكومة الانتقالية المؤقتة، واستضافت لمدة ساعتين عشية السبت الناطق باسم حزب العمال الشيوعي التونسي المحظور حمة الهمامي، ووعدت باستضافته مجدداً عشية الأحد الذي شهد إقفال المحطة لفترة، فهل هذا من أسباب تعجيل انقضاض السلطة المؤقتة عليها؟
الصحافي المستقل محمود العروسي قال لـ «الأخبار» إنّ من الضروري التعامل بوضوح مع الرأي العام، بشأن نوعية التهم الموجّهة إلى أصحاب «حنبعل». وأكد أنّ إيقاف بث القناة يعدّ «اعتداءً على حرية الصحافة»، وأيضاً «على الصحافيين الذين يعملون فيها، وهؤلاء لا علاقة لهم بعلاقات نصرة ومواقفه».
ثم ما هي نشاطات «حنبعل» التي برزت بصورة مفاجئة؟ صحيفة «الشروق» اليومية ذكرت أنّها تلقت معطيات تفيد أنّ صاحب «حنبعل» حصل على مبالغ كبيرة من الدولة (بين 7 ملايين و14 مليون دولار) رغم أنّها محطة خاصة. وأشارت إلى أنّ العربي نصرة عاش فترة طويلة في الولايات المتحدة ويحمل الجنسية الفرنسية، و«قد اشتهر بنشاطه في مجال تجارة الأسلحة في بداياته»، كما أضافت الصحيفة إنّ أحد أبنائه المتزوج بابنة شقيق ليلى طرابلسي، زوجة الرئيس المخلوع، قد سبق له أن تورط في قضية مخدرات... لكن يبقى السؤال الحقيقي هو: لماذا فُتح هذا الملف الآن؟ وماذا عن بقية القنوات الإذاعية والتلفزيونية الخاصة التي حصلت على رخص العمل في ظروف غامضة، يشوبها الكثير من علامات الاستفهام؟