يفرق القدر بين عبد الجليل وكلبه «فرند». مع ذلك، يحاول كل منهما إيجاد طريق الآخر عبر قرار متابعة المسير. على هذا المشهد، يُسدل أحمد علي الزين الستار في «صحبة الطير»، الرواية الثانية من «ثلاثيّة عبد الجليل الغزال» التي افتتحها عام 2007 بـ«حافة النسيان». اليوم، تعيد «دار الساقي» إصدار «حافة النسيان» (صدرت للمرّة الأولى عن «دار المدى») إلى جانب إصدار الرواية الثانية في الثلاثية بعنوان «صحبة الطير»، في انتظار أن تكتمل «مرثيّة العالم» هذه بالرواية الثالثة الأخيرة.
مشهد الفراق الأخير المشار إليه أعلاه، يأتي ليعزّز تيمة التيه والوحشة في الرواية. لكنه يعد أيضاً بلقاء ننتظره في الجزء الثالث على الأرجح. رغم الألم والحزن اللذين يعشّشان في قصّة عبد الجليل الغزال، يصرّ الكاتب والإعلامي اللبناني على فتح كوّة أمل، ولو صغيرة. بين كثبان الصحراء الشاسعة، تقف شجرة السدر، وبين الرمال حذاء يدلّ على أنّ أحداً مرّ من هنا. ووسط الدمار والخراب الذي اجتاح مدينة «وادي الدموع» العراقيّة المتخيّلة، وتشرّد أهلها، هناك نبتة صغيرة استقرّت بين صخرتين. في هذه الثلاثيّة، يعرض أحمد علي الزين قصّة الشاعر العراقي، اللبناني المنشأ الذي قُبض عليه في منزل حبيبته هدى في وادي أبو جميل في بيروت، ليزجّ في السجن نحو ربع قرن. في السجن الصحراوي أو حتى خارجه، يكتشف عبد الجليل كلّ أشكال التعذيب. بعضها يذكّر بأساليب رومانيّة قديمة، كمقتل مهدي الأخ الأكبر لعبد الجليل. إذ مشت القرية كلّها خلفه مكبّلاً، كي يصل نهاية إلى «قفصه» حيث توالت الكلاب على نهشه. وفي السجن، تُغتصب نساء السجناء ليصلبن من بعدها.
«خطف» عبد الجليل من بيروت يشير إلى ظلم وتعسّف الأنظمة العربية، إلّا أنّ أسباب سجن بطل الرواية لا تزال غير واضحة في الجزءين الأولين. قد يكون غياب الوضوح في هذا الصدد عائداً إلى الإصرار على الجانب التعسّفي لعمليّة الاعتقال. مع ذلك، نستشفّ في بعض المواقف أسباباً سياسية خلف سجن عبد الجليل... لكن سيتضح لنا في آن أنّ الراوي لا يتبنى موقفاً سياسياً واضحاً. هو، وإن كان قد التحق في فترة معينة بالفصائل الفلسطينية، إلّا أنّه عاد وتخلّى بسرعة عن انتمائه الحزبي. بموقفه هذا يشبه عبد الجليل كاتبنا. يقول أحمد علي الزين إنّ بطله الشاعر، يشبهه بتعامله مع اللغة، كما باحتجاجه على السائد، وعدم رضاه عن العالم والأيديولوجيات.
في «حافة النسيان»، يستعيد عبد الجليل حياة السجن وهو تائه في الصحراء. هو الناجي الوحيد ممّا يشبه «يوم القيامة» أو من القصف الذي استهدف السجن الصحراوي. تبتلع الصحراء السجن مع كلّ من فيه، ليخرج عبد الجليل وحيداً، مع كلب السجّان الذي يصبح صديقاً وفياً للسجين. ظهور «فرند» فجأة في الصحراء يحوّل السرد من مونولوغ داخلي إلى حوار بين عبد الجليل وكلبه. وفي «صحبة الطير»، يحافظ الكاتب على الحقل المعجمي ذاته وعلى صيغة الحوار بين «فرند» والراوي. توطّد العلاقة بينه وبين الشاعر في الجزء الثاني، ووصوله إلى مسقط رأسه «وادي الدموع»، يمثّلان محفّزاً له كي يتذكّر طفولته في هذا المكان، وحادثة مهدي التي جعلتهم يرحلون عن القرية إلى «تلّة سليمان» في شمال لبنان.
«صحبة الطير» مشحونة بهذه الذكريات التي لا يقطعها سوى اختطاف عبد الجليل على أيدي تيار ديني متشدّد، يجبره على الابتعاد عن «فرند». في الجزءين الأول والثاني من ثلاثيته، يخوض الزين مشاكل العالم العربي، من الأنظمة القمعية إلى التيارات الدينيّة المتشدّدة. كان طبيعياً بالنسبة إلى الزين أن يطرح هذه المشاكل، فهو يرى أنّ «الكتابة تأتي نتيجة الانفعالات والأسئلة والمشاهدات، ونتيجة إحساس الكاتب بعدم الرضى عن العالم من حوله».
في صفحات قليلة، يتخلّى عبد الجليل عن دور الراوي ليحلّ مكانه راوٍ خارجي، كأنه هنا ليكرّس مشاركة «فرند» دور البطولة مع عبد الجليل، فيخبرنا عن أحواله بعد ابتعاده عن صديقه، ويعطي كذلك نظرة سينمائية شاملة لوضع الشخصيتين والمكان. تأثير المسرح الذي درسه الكاتب، ينعكس واضحاً في تركيبه لمشاهده. الأمكنة في روايته بالغة القسوة. بعد نجاة عبد الجليل من حادثة السجن الصحراوي، يجد نفسه وسط الصحراء الشاسعة، ثم يبدأ الراوي المسير حتى يصل إلى «وادي الدموع». المكانان يضعاننا مع عبد الجليل أمام الفراغ الكبير.
يقود هذا الشاعر، أحمد علي الزين إلى استعمال لغة شعريّة في وصف المكان. ويتمثّل السرد كذلك في الصحراء، فيأتي بطيئاً كحركة الكثبان. على القارئ الصبر حتى تتكشّف له الأمور. تضعنا هذه الرواية أمام أسئلة وجودية عدة. سؤال الحريّة والأديان... فنتساءل إن كان عبد الجليل قد حصل على حريته بخروجه من السجن، أم أنّه يعيش في سجن أكبر مع خروجه إلى الصحراء أو وصوله إلى «وادي الدموع» المدمّرة والمهجورة كلياً؟ لم هو الناجي الوحيد؟ ما الهدف من حياته وسط هذا الخراب؟ كل ما يعرفه عبد الجليل أنّه ما زال متمسكاً ببصيص أمل يمنعه من الانتحار. حتى أحمد علي الزين لا يعرف تماماً ما سيكون مصير عبد الجليل الغزال النهائي. يقول: «الكتابة كالماء، لا يمكن حصرها. تبحث دوماً عن منفذ. لذلك حتى لو كان لدي مخطط، فأنا لا أعرف غالباً النهايات، بما أنّ الكتابة يمكن أن تغيّر مسارها».