ما زالت ديزيريه فرح تعمل في «المؤسسة اللبنانية للإرسال» منذ 26 عاماً. المدّة طويلة، لكنّها عزّزت ملامح الطفولة والبراءة على وجهها. لا فارق بين «ديدي» التي شاهدناها في آخر عقدين من القرن الماضي، و«ديدي» هذه الأيام. للطفولة الأولويّة في وجهها، وصوتها، وابتسامتها ابتسامة توحي بسلام دائم.
مقدّمة برامج الأطفال المحبوبة، لا تنسى شيئاً من طفولتها المرّة. كان لها ستة أعوام طريّة حين بدأت الحرب الأهليّة اللبنانية عام 1975. تكرّ سبحة الذكريات المؤلمة. باختصار، تذكر «ديدي» المبيت في الملاجئ الحالكة. سوادها أهون من الموت الذي فتك برفاق لها في المدرسة. تراهم بالأمس، وتسمع بخبر موتهم قنصاً في اليوم التالي. صوت أمّها حين تناديها وإخوتها «عجلوا طلعوا بلّش القصف». الركض باتجاه الفرن للحصول على رغيف الخبز. اللعبة المرّة والهرب من رصيف إلى آخر، تجنّباً لرصاصات قنّاص وقح. السكن في جبيل في غرفة واحدة، وتبديل المدرسة كل ثلاثة أشهر، حيث كان في إحداها مهجرون يبيتون فيها. وعند السادسة صباحاً، يوسّعون المكان لطاولات الدراسة.
كيف لطفلة أنتجتها الحرب أن تؤسّس لهذا السلام؟ لا تبدو الإجابة صعبة عليها. فُتح هذا الباب أمامها بفضل والدتها ميمي فرح التي كانت تعمل في برامج الأطفال على تلفزيون لبنان. قرّرت ديزيريه منذ صغرها: «سأبني بيتي المسالم داخلي. الحرب قوية، لكنّها ستنتهي». بالمصادفة بدأت «ديديه» تنسج علاقتها مع الكاميرا. أعجب مروان نجار وميلاد الهاشم بملامحها المشبعة بالطفولة.
أثناء وجودها مع والدتها في «تلفزيون لبنان»، نجحت في دور تجريبي، وبدأ مشوارها مع مسلسل «عاشق الذهب». في عام 1985، بدأت «ديدي» عملها في «أل. بي. سي». انطلق معها قطار برامج الأطفال. «بيت بيوت» هو البرنامج الأوّل الذي قدّمته. منعتها موهبتها التلفزيونية من تطبيق اختصاصها في تربية الأطفال الذي تلقّت دروسه عند الراهبات في ساحل علما. وعلى رغم أنها «مسكونة بشخصية المعلّمة» كما تقول، إلا أنها لم تدرّس في مدرسة يوماً، وتجنّبت التلقين والوعظ في برامجها التي خاطبت الأطفال. تفاصيل حياتها، كثيرة على شابة في عمرها. تزوّجت في عام 1985، واستمر الزواج 13 عاماً، قبل أن تنفصل وتتزوج ثانيةً عام 2002. أثناء هذه الفترة، تقلّبت حياتها بين مشاهد كثيرة. تقديم برامج الأطفال، والسفر إلى كندا عام 1991 واستمراره على نحو متقطّع ثلاثة أعوام، والثبات أخيراً على نقطة التحوّل في رحلتها التلفزيونية: برنامج «كيف وليش؟» الذي بدأ عرضه عام 1993 وقدّمته على مدى تسعة أعوام. هكذا تحوّلت «ديدي» إلى جزء من وعي الأطفال.
اليوم، كبر الأطفال، لكنّهم ما زالوا يحبّونها، وكلّما التقوها مصادفةً يذكّرونها بأنهم كانوا من متابعيها. تغوص في علاقتها الحميمة بالطفل: «إنّه أثمن كائن لأنّه الأصدق». أكثر من 5000 ساعة بث تلفزيوني، كانت تعدّ حلقاتها «من الجلدة إلى الجلدة» بمعدّل 7 أيام أسبوعياً. كسرت «ديدي» كل الحواجز التي فرضتها الحرب أيضاً. هكذا، قدّمت معظم مسرحياتها على خشبات مسارح شارع الحمرا المحبوب من الجميع. بعد انتهاء المسرحيات، كانت «ديديه» تجالس الأطفال، وتلبّي طلبات الأهل بتقديم نصائح إلى أبنائهم لشرب الحليب مثلاً. مثّلت سلطة معنوية على الأطفال. أحبّوها بشغف. تذكر من حواراتهم تعلّقهم بالشخصيات التي قدّمتها في برنامج «كيف وليش؟». توحي أسئلتهم البريئة بتحوّل شخصيات البرنامج إلى شخصيات واقعيّة، يسألون عنها ببراءة: أين تعيش الست حشّورة؟ في أي مدرسة يتعلّم جوجو الكلون؟ أين تلعب الست ثرثارة؟
فرضت حساسية التعامل مع الأطفال شروطها على «ديدي». كيف لا، وهي أصلاً تتوجّه إليهم على اختلاف طبقاتهم وبيئاتهم اللبنانية المتقوقعة؟ لكنّها نجحت في تجاوز الألغام اللبنانية الكثيرة. ابتعدت عن السياسة والدين. لم تستعمل قلماً أو أشغالاً يدوية ليست بمتناول الجميع. لغوياً، ابتعدت عن استعمال العبارات «اللبنانية» الدارجة كـ«بونجور، سافا، ميرسي».
بواقعيّة، تتحدّث عن غيرة ولديها جاد ورواد من باقي الأطفال. لكن هذه الغيرة بقيت محدودة «تفهّم أولادي أنّ عملي يتطلّب الاختلاط الدائم بأطفال. يرافقونني دوماً في كل أسفاري ونشاطاتي خارج لبنان». في عام 2003، أسدلت فرح الستارة على عملها في برامج الأطفال. فضّلت الاحتفاظ بتجربتها كما هي «بعد برنامج بيغ بايت (بيت كبير) شعرت بأنني لم أضف جديداً».
أثناء حرب تموز 2006، تركت «ديديه» جواز سفرها الكندي في الخزانة. لم تركب بواخر الأجانب لمغادرة لبنان. فضّلت الصلاة في «مار شربل» لإنهاء الحرب. تألّمت لمشاهد المهجّرين في المدارس، صلّت لهم «لم أحتمل مشاهد عذاباتهم. أكثر ما آلمني أطفال مرضى توقف علاجهم بسبب الحرب». حرب تموز المفصلية في حياة فرح، هي التي أشعلت لديها فكرة البرنامج الاجتماعي «نحنا لبعض» الذي تعدّه وتعرضه lbc. تختصر المسافة إلى تعريفه: «إنّه رسالة من الله إلينا، واجبنا التضحية من أجل أخينا الإنسان ومساعدته». ترفض النقد الذي يوجّه إلى البرامج التي تطلب مساعدة الفقراء علانية «لو كنا نعيش في ظل نظام يرعى المحتاجين، لما احتجنا إلى هذا البرنامج».
علّقت «ديدي» على خزانة مكتبها صوراً صغيرة لأطفال، هم بالنسبة إليها مقاييس للحزن والفرح. إيفان، طفل عراقي، ساعده البرنامج عبر عملية جراحية في قلبه. أنطونيو، «حبيب القلب» كما تصفه، قارع الوجع ونجحت عمليته الجراحية. لكنّها تغصّ حين تنظر إلى سارة. كانت تغسل الكلى، لكنّها توفيت منذ فترة. وعلى قاعدة أنّنا جميعاً راحلون عن الدنيا، تسعى «ديدي» وفريق عملها إلى أن يخرج المحتاجون أو المرضى مطمئنّين. أليس جميلاً أن يجد المسنّ سريراً يؤويه قبل رحيله؟
في المحصّلة الأخيرة، تبذل «ديدي» مجهوداً لصناعة الفرح. لديزيريه فرح مشاريع كثيرة، بدأت مع الأطفال وتستمر اليوم مع الفقراء. أي مشروع قادم لن يخرج عن النطاق الإنساني. السيدة الأربعينية متوهجة بالطفولة، مؤمنة، تختصر كل إنجازاتها بكلمات قليلة: «كلها نعمٌ من الله».


5 تواريخ

1969
الولادة في منطقة سن الفيل

1983
المشاركة في مسلسلات عدّة، أوّلها
«عاشق الذهب» على «تلفزيون لبنان»

1985
بداية العمل في المؤسسة اللبنانية للإرسال
في برنامج «بيت بيوت» للأطفال

1993
انطلاق برنامج «كيف وليش»
الذي استمر تسعة أعوام

2011
مستمرة في إعداد برنامج
«نحنا لبعض» على lbc