دمشق| يسعى رياض نعمة (1968) في معرضه الجديد «الشارع»، الذي تستضيفه «غاليري رافيا» في دمشق، إلى أن يكون متفلتاً من كل المعايير المسبقة في بناء اللوحة. ليس لدى هذا التشكيلي العراقي، الذي استقر أخيراً في دمشق، وصفة أسلوبية جاهزة. خضعت تجربته لتحولات متلاحقة. هكذا يجد في مشاهداته اليومية في الشارع فضاءً خصباً لإقامة علاقات لونية نافرة عبر عدسة مكبّرة، تلتقط ما هو مهمل ومنسي. لا يتوانى عن استخدام بقايا ملصق، أو كتابة على جدار، أو خربشات مبهمة، أو طلاسم، ليخضعها لاحقاً عبر التركيب والقص واللصق والتلوين إلى ما يشبه التشخيصية التعبيرية.
يمحو تفاصيل الصورة الفوتوغرافية بعمليات غرافيكية معقّدة، وضربات لونية نزقة على سطوح خشنة، يسيطر عليها الرمادي، عدا مشحات بالأحمر. ما يبقى من حركة الشارع طفل يلهو، أو طفلة بحقيبة مدرسية، لكنها شوارع مغلقة، ومغبرة، وعدائية، كأنها متاريس عالية تستلب ذاكرة بعيدة ومشوّشة. ذاكرة مشدودة غالباً إلى دراجة هوائية، ستتكرر في معظم أعماله. هناك رغبة جامحة في استعادة تلك الطفولة التي أجهضتها الحروب المتعاقبة، وإعادة ترميمها عبر إشارات مختزلة.
لا يمكننا تجاهل السيرة الشخصية لهذا التشكيلي الذي وجد نفسه في أتون الحرب العراقية سنوات طويلة، وإلحاح تلك المشاهد على خطوطه وألوانه وتكويناته. حالما أُتيحت له فرصة العودة إلى بغداد ما بعد الاحتلال، أنجز معرضاً خاصاً، يلخص مشاهداته. كانت المدينة تحتشد بالحديد والغبار. الشوارع والساحات ووجوه البشر، فاختار عنوان «صدأ» لمعرضه الذي أقيم في براغ (2004). حينئذٍ، كان الكاكي والحديد وحدهما يرسمان حدود اللوحة. وربما كان اللون المعتم والداكن يسيل خارج الإطار، في إشارة صريحة إلى كابوسية اللحظة التي عاشها في بلاده. استخدامه اللاحق للرماديات بكثافة، ليس تقشفاً لونياً بقدر ما هو إسراف في تفريغ شحنة، أرخت بظلالها على حياته المضطربة، عبر هجرات متلاحقة، وسعي إلى الخلاص من مشهدية الخراب، وذلك بتوثيقها بصرياً في المقام الأول. هكذا، استخدم الكولاج في تمتين العلاقة بين عمق اللوحة وحركة الطفل لحظة مغادرته المكان، أو مواجهة صلادة الجدران، وخشونة المعدن، وحجم السواد.
لدى التمعّن في لوحة رياض نعمة، نلاحظ الخيط الذي يحمله الطفل في معظم أعمال المعرض، ثم ننتبه إلى كونه مقطوعاً. هناك لعبة غير منتهية إذاً. حدث ما، بتر الخيط، وترك الطفل في حيرة سؤال معلّق لا يجد إجابة عنه. لعل رياض نعمة نفسه يقوم بألعاب مشابهة، لجهة نسف مرجعياته الأكاديمية، والتوغل في ارتجال سرد بصري متشابك بغنائية مشبعة، تصنعه لحظة اللعب بالمادة الخام، واكتشاف مسالك متشعبة، وفقاً لأهواء الغريزة. في أكثر من عمل، يبني إطار اللوحة على شكل ثقب مفتاح، أو دائرة، ليتلصّص على عالم مفتقد ومنهوب وغائم.
يعترف رياض نعمة بأن استخدام الفوتوغرافيا في نسيج اللوحة أتى بإلحاح سطوة الصورة على حياتنا الراهنة. لكنّه يتفادى فخ المجانيّة، عن طريق انهماكه بنبش الداخل، وفحص ارتباكاته المتراكمة، كما يعمل على إضاءة المسافة الفاصلة بين الشارع بصخبه وتحولاته وعربدته، والأطروحات الثقافية المتعالية عمّا يصطخب في الجوار.
هكذا تغيب ملامح الوجوه، وتحضر ظلالها في بورتريهات مهتزّة، ومغبّشة، وصادمة، في متاهة اليومي، بكل حمولتها المعرفية. المتاهة التي أغرقت القماشة بحلكة لا مفرّ من وطأتها على الكتلة، أو المقطع الأساسي المفصول عمّا يحيط به، وتالياً تأثيث الذاكرة بمفردات أخرى، تتخفف ممّا أثقلها من أهوال ومكابدات وصبوات. هكذا يحطّم رياض سكونية المشهد بكولاج ملوّن، سوف يكون مركزاً لمعاينة الحوار الداخلي بين ظلال شخوصه وانشغالاته بترميم الفراغ، وضبط نزوات الخطوط الشاقولية العنيفة.
درس رياض نعمة في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد (1992)، لكنه لم يأنس في تجربته إلى المحترف العراقي وحده، على رغم ثرائه وتنوّعه، بل خضّبها بتجارب وتيارات متعددة، بسبب ترحاله القسري، وعدم استقراره في جغرافيا ثابتة. التجريد الذي حكم تجاربه المبكرة في ظل الحصار، انزاح جزئياً نحو تشخيص واقعي، وتعبيرية قلقة محكومة بأبعاد تحريضية واحتجاجات جمالية، تجد مبتغاها في الوجوه التائهة والملتاعة لطفولة عزلاء، إلى حسّ غريزي في استخدام اللون. وإذا بتلك الوجوه تحتل سطح اللوحة لتكتب ولعها في استعادة طفولتها المؤجلة والمسلوبة والمنكسرة، ورغبتها المحمومة في التحليق على دراجة هوائية إلى فضاءات لا تحجبها الجدران العالية.

حتى 26 شباط (فبراير) ـــــ «غاليري رافيا» (دمشق): للاستعلام: +963113310803 ـــــ www.rafiagallery.com


بلا طوق نجاة

في معرضِه السابق «الجدار»، استخدم رياض نعمة المفردات نفسها التي تحتضنها أعماله الأخيرة، ولو بمقاربات غرافيكية مختلفة. كان الطفل يتلصّص من وراء الجدار بفزع، معلّقاً بصورة دراجة هوائية. هذه المرة نراه يقتحم الشارع، ليستعيد ما افتقده قسرياً. خطوة... خطوتان، ثم صدمة مباغتة. هذا الشارع سيغرق بالأحمر، ليتناوب مع الأسود، بلا طوق نجاة.