كسَيْف من حزن ودمع، يشق محمود عبد الكريم عتمة طريقه إلى مقهى الرصيف، حيث التقيناه. قبعة صوفية سوداء، رداء أسود، ولحية بيضاء تبدو كأنّ العمر رسم عليها وجعاً أبدياً. قبل أن نبدأ حديث الذكريات الطويل، كان علينا أن نعزّيه برحيل والدته قبل أسابيع. سنكتشف سريعاً أنّ قسوة الحياة هي ملح إبداع هذا الرجل، ولا تعدو كونها تفصيلاً، اعتاده، فراح يطوّعه، ويحوك منه خيوطَ سخرية سوداء صارت لصيقة بشخصيته. في ريف مدينة جبلة، في قرية سربيون، ولد محمود عبد الكريم. ما زالت ذاكرته تحتفظ بصور البحر الغافي بسحر إلهي... تحتفظ ذاكرته أيضاً بصور نصف أطفال قريته وهم يُعدّون زاد الرحيل إلى بانياس أو جبلة لإكمال الدراسة الإعدادية. النصف الآخر كان مصاباً إما بداء الحصبة، أو بداء السل، وانتهى نعوشاً حُملت على الأكتاف، وسط جهل وفقر وعدم اكتراث للمصيبة كيف تحل ومتى تمضي. «العالم بالنسبة إلينا كان محصوراً بين قلعة المرقب وقرفيص (قرية ساحلية أخرى). كان بيت عائلتي يطل على هذا المشهد، وكنت أظن هوة العالم جاثمة خلف قلعة المرقب، وأنّها ستبتلع كل من يتجاوزها».
أصدر عبد الكريم ديوان شعر وحيداً هو «رعويات» كتبه ليحكي فيه قصص طفولته وهو يرعى الغنم، وكيف سبر أغوار منطقته الغنية بالآثار اليونانية، وبالكهوف، والآبار، والقلاع المندثرة، وأشجار السنديان الطاعنة في السن. «هناك نمت أرواحنا وأجسادنا، ولم يكن يحجبنا عن برودة الطقس والوحوش الخطرة، إلّا ظل شجيرة، أو قبّة قديس مات منذ زمن، فدفن هناك، ونمت عند مرقده شجرة سنديان».
كانت والدته تدرك شقاوته، فتحذّره من الاقتراب من شجرة المقدّس: «إياك أن تقطع غصناً من شجرة المقدس، لأنّ القديس سيعلِّق السكة في عنقك بدلاً من الثور، ويجعلك تحرث الأرض». هنا يتذكر الكاتب السوري بحنين ممزوج بالفرح، حلماً كان يراوده وأترابه، عندما يقطعون أغصاناً من الأشجار المقدسة: القديس يلاحقهم، ويفلح عليهم. «استيقظت عشرات المرات ورقبتي تكاد تنخلع من الألم! ولّد لدي هذا الموضوع عشرات الأسئلة». كان هناك لعبة ينتشي بها محمود الصغير ورفاقه. كان كلّ واحد يختار طفلة تعجبه، فيبني لهما الآخرون بيتاً من قصب، ويزفونهما إليه على وقع الزغاريد، وعيارات النار المفترضة من مسدساتهم الخشبية.
رافقته كتابة الشعر منذ سنوات الدراسة الإعدادية. وحين حاز الشهادة الثانوية، غادر نحو صخب المدينة وإسمنتها. راح يتقاسم مع أصدقائه لعنة الحياة في غرفة تقع داخل أحد الأحياء العشوائية في دمشق. انتسب حينها إلى «كلية الآداب» في «جامعة دمشق»، والتحق بقسم الصحافة في السنة الأولى على إطلاقه. «عندها، أصبت بمرض ما زال يلازمني حتى اليوم. اكتشفت حقيقة هذا الداء عندما قرأت رواية فرنسية تحكي عن شخص أصيب بـ«الفقد»، أي إنه فقد المكان الذي يحبه. وهذا ما حصل معي». على وقع الفقد، قرر عبد الكريم أن يلملم أغراضه، ويعود أدراجه إلى القرية، ليعمل مدرّساً، لكنّه اكتشف أن وحشة العاصمة، أفضل بألف مرة من أن يستيقظ المرء صباحاً، ليذهب إلى دوام روتيني ثمّ يعود إلى بيته. عندها، قرر أن يهجر الوظيفة، ويشطب من حياته شيئاً اسمه دوام حتى لو مات جوعاً. «أنا والدوام عدوّان لدودان يستحيل أن نجتمع في مكان واحد».
عاد إلى المدينة ليكمل دراسته، فعمل نادلاً في بوفيه المدينة الجامعية، ثم ترقّى إلى محاسب... وكانت النتيجة أن أصيبت ميزانية المطعم بعجز، بعدما حوّل محمود الشاب درج النقود، إلى صندوق دعم لكل زملائه من الطلاب الفقراء، وكان معظمهم لا يملك ثمن تذكرة باص أو علبة سجائر. بعد التخرج، قادته المصادفات نحو مبنى «هيئة الإذاعة والتلفزيون السوري»، فعمل محرراً لم ينل رضى مديريه البتة، وخصوصاً أنّه فضل اتّباع قاعدته الذهبية في الدوام.
أوفده التلفزيون السوري إلى لبنان في الثمانينيات، فرفض أن يكون مراسلاً سياسياً، «لأنّني كنت أشعر بالغثيان كلما التقيت أحد السياسيين اللبنانيين». هكذا قرّر أن يكون مراسلاً حربياً في الجنوب، لمدة أحد عشر عاماً، واجه خلالها الموت عشرات المرات. في بيروت، التقى عمالقة الفن، على رأسهم فيروز والأخوين الرحباني، والتقى أيضاً مارون عبود، وطلال حيدر، وجوزيف حرب، وميشال طراد. ألقى الضوء على إبداعات هؤلاء وحيواتهم، من خلال مواد مصورة عرضت على التلفزيون السوري. في بيروت، أنجز مجموعة من أهم الأعمال الوثائقية في تاريخ التلفزيون السوري، ومنها سلسلة «وردة الدم» الوثائقية، صور فيها عمل المقاومة الميداني، حتى إنّ معظم من مروا أمام الكاميرا صاروا شهداء في ما بعد. كذلك أنجز «حكاية هذا الجنوب»، وبرامج توثيقية أخرى صورت عمليات عسكرية حية. أعدّ خلال تلك الفترة برامج ثقافية منها «أوراق النهضة»، و«ديوان العرب» بالتعاون مع الشاعر علي عبد الكريم.
بعد عودته إلى سوريا، بدأ يطوّع التاريخ الذي قرأه بعمق ليحوّله إلى مسلسلات درامية فكتب «قمر بني هاشم»، و«فارس بني مروان»، و«البحث عن صلاح الدين»، وأخيراً «رايات الحق» عن فترة حروب الردّة. كتب مسرحيات غنائية حقّقت نجاحاً كبيراً، وأعدّ عن نصوص محمد الماغوط مسرحية «قيام سكوت جلوس» لزهير عبد الكريم، كما كتب مسرحية «من حجر أتيت» وأخرجها عابد فهد، ومسرحية «سيف الدولة الحمداني» التي أخرجها جهاد سعد.
تبقى أعماله المهمة حبيسة الأدراج، لم تتبنّها جهات إنتاجية بعد، لكن يبدو أنّ عبد الكريم سيحقّق نقلة نوعية على صعيد السيناريو، بعدما أبرم اتفاقاً مع «المؤسسة العامة للإنتاج التلفزيوني»، لتنتج له مسلسلاً أعده عن روايتي حنا مينه «شرف قاطع طريق»، و«المصابيح الزرق»، وستوقّعه المخرجة الشابة إيناس حقي.
حلم محمود عبد الكريم الأكبر، كان الخروج برحلة حول العالم سيراً على الأقدام... لكنّ ابنتيه قمر ونور وطّدتا ارتباطه بالمكان، فقرر الاستقرار في سوريا. دائماً وأبداً...



5 تواريخ

1952
الولادة في قرية سربيون، ريف مدينة جبلة على الساحل السوري

1975
تخرّج من جامعة دمشق، وبدأ عمله في الإذاعة والتلفزيون في العام التالي

1985
عيّن مراسلاً حربياً في الجنوب اللبناني وأصدر ديوانه «رعويات»

2001
كتب مسلسل «البحث عن صلاح الدين» لنجدت أنزور

2011
يعدّ مسلسلاً عن روايتَي حنا مينه «شرف قاطع طريق»، و«المصابيح الزرق»